الجمعة، 25 فبراير 2011

القصة الكاملة .لحركة الضباط الوحدوين الأحرار في سبتمبر 1969 - شبكة أنا المسلم للحوار الإسلامي

القصة الكاملة .لحركة الضباط الوحدوين الأحرار في سبتمبر 1969 - شبكة أنا المسلم للحوار الإسلامي

القصة الكاملة

لحركة الضباط الوحدوين الأحرار في سبتمبر 1969
خفايا وأسرار





تمـهـيد

أعود بفضل الله ومنته للكتابة من على هذا المنبر الوطني المتميز بعد رحلة علاج واستجمام استمرت لعدة أشهر كللت بالنجاح والحمد لله، وأسال الله لي ولكم دوام العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة.

الغرض من مراجعة وتحديث هذا البحث هو تقديم المزيد من المعلومات والشواهد والقرائن الهامة عن خلفيات حركة "الضباط الوحدوون الأحرار" في فاتح سبتمبر 1969 وكشف العلاقة الوثيقة التي كانت قائمة قبل الإنقلاب ـ ثم تعززت بعده ـ مع جهات أجنبية وشخصيات مشبوهة أو ذات علاقات مشبوهة بقوى خارجية. ومن أهم وأخطر هذه الشخصيات هو القاضي ورجل القانون مصطفى المهدوي.


تـقـديـم



لاقت مقالة الكاتب مفتاح فرج عن أسرار وخفايا الإنقلاب العسكري الذي انطلق من بنغازي عند الساعة الثانية من صباح يوم الإثنين فاتح سبتمبر 1969، التي نشرت على موقع أخـبار ليـبـيافي 29 مايو 2005 إقبالا منقطع النظير من قبل القراء. ويتجلى ذلك في عدد القراءات الذي سجلته والبالغ ما يقرب من 14 ألف قراءة.
كاتب المقالة عاصر ذلك الحدث الهام، وهو شاهد عيان على الكثير من المواقف والوقائع التي يسردها فيها. وقد حرص على إعدادها بطرقة علمية وبحثية متقنة، متحريا الدقة والإنصاف في عرض الحقائق والوقائع كما عاصرها شخصيا.
كما حرص الكاتب على استقاء المعلومات من مصادرها الرئيسية وتفادي نقل الروايات دون التحقق من صحتها، واعتمد في غالبية ما كتب على ما رآه أو سمعه مباشرة أو ما نقله عن مصادره الأصلية.
بعد نشر المقالة الأولى وردت إلينا استفسارات واستيضاحات حول عدة نقاط أحلناها على الكاتب الذي قام مشكورا بمراجعتها وأخذها في الاعتبار. كما تفضل بإضافة معلومات جديدة على قدر كبير من الأهمية في سياق الموضوع.
ونظرا لتعرض الكاتب لوعكة صحية دامت عدة أشهر، فقد تأخر إعداد هذه النسخة المزيدة المنقحة. وإذ ندعو له بالشفاء الكامل ودوام الصحة والعافية وطول العمر يسرنا أن ننشر المقالة مضافا إليها أقوال وصور لشخصيات مذكورة فيها بعضها ينشر لأول مرة. وذلك زيادة في الفائدة وإسهاما في تسجيل تاريخ ليبيا وتوثيقه وتوفير المعلومات الصحيحة للأجيال القادمة.
ولعل نشر هذه المقالة الوثائقية التاريخية يكون حافزا لشخصيات ليبية أخرى عاصرت تلك الفترة، وربما ساهمت في صنع أحداثها أو كانت شاهد عيان عليها، أن تبادر بالكتابة وإلقاء الضوء على مزيد من تلك الأحداث والوقائع تعميما للفائدة واستكمالا للصورة.
أخـبار ليـبـيا ـ 31 أغسطس 2006


وقد لفت انتباهنا الإقبال الهائل للقارئ الليبي على مقالتنا الأولي حيث زاد عدد القراءات عن 13 ألف قراءة. كما رصدنا رد فعل أجهزة النظام الليبي، من محاولاته لتدمير موقع "أخـبار ليـبـيا" لنشرها المقالة(1) ، إلى ما جاء على لسان العقيد القذافي في خطابه يوم 11 يونيو 2005 في ذكرى خروج القوات الأمريكية من ليبيا. (2)

إن المعلومات والحقائق التي أصبحت اليوم في متناول الباحثين والمؤرخين، والتي نكشف بعضها في هذه المقالة، تجعل من الأمانة العلمية والتاريخية مراجعة الحيثيات والظروف والمعطيات التي نفذت فيها عملية فاتح سبتمبر 1969، وتحديد دور القوى الدولية والإقليمية والمحلية فيها، أو مدى تبنيها ودعمها لها بعد أن نجحت.

لقد أثبتت المعلومات التي نشرت منذ قيام حركة سبتمبر 1969 أن الإنقلاب العسكري لم يكن مفاجأة للعديد من الشخصيات العسكرية والسياسية داخل ليبيا ولبعض المراقبين الدوليين والقوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. كما بينت أن نجاح الإنقلاب لم يكن لأسباب وعوامل موضوعية صرف بل إن ظروفا معينة ومفارقات وأطراف عديدة ساهمت في تسهيل سيطرة حركة الضباط الصغار على السلطة وزمام الأمور في البلاد دون إراقة دماء أو مصادمات مسلحة.

لقد اعتبر كثير من الكتاب والمؤرخين ـ الليبيون منهم بصورة خاصة ـ أن تورط القوات المسلحة الليبية في انقلاب عسكري ضد النظام الملكي المستقر آنذاك كان مغامرة لا داعي ولا مبرر لها، ومنهم من ذهب إلى القول بأنها "مؤامرة أمريكية صهيونية بل وماسونية أيضاً"!! وقد حرصت في هذه المقالة على تقديم الوقائع والحقائق والملابسات والروايات والربط بينها بكل دقة وموضوعية. وأرجو من إخوتى منتسبي القوات المسلحة ـ التى ربما كانت هي المتضرر الأول والضحية الأكبر للعهد الجديد ـ التمعن في ما جاء في هذه المقالة ومراجعة أنفسهم ومواقفهم تجاه الوطن والمواطنين وأن يعوا الدروس تحاشيا للتورط في المزيد من المغامرات والكوارث التي لا يرجى منها لبلادنا العزيزة أي خير.

لقد كانت العقود الثلاثة الماضية سنين إبتلاء وتمحيص لجميع الليبيين... مدنيين وعسكريين، حكاما ومحكومين. ولقد حان الوقت أن تتوحد صفوف المخلصين من أبناء هذا الوطن وينبذوا ما بينهم من فوارق وخلافات وأن يتسلحوا بالعلم والإيمان والعمل بجد وإتقان بما يرضى الله ورسوله.. وألا يدعوا لليأس والتشاؤم سبيلا إلى نفوسهم. فهذه ليست من شيم المؤمنين، ونصر الله آت للمظلومين وأصحاب الحقوق لا محالة وسيلقى العملاء والظلمه عقابهم، وسيجتمع الشمل وستعود بإذن الله البسمة والمحبة والحقوق لأهلها في ربوع بلدنا الحبيب.

تحية لكل النفوس والقلوب الحية من أبناء شعبنا الصابر ونبشر الظالمين والمفسدين بنهاية وخيمة لن تنفع في ردها الملايين ولا المليارات المسروقة من خزينة الشعب الليبي والمودعة بأسماء الأبناء والأقارب والأحفاد في سبع دول، ولا القوات الخاصة ولا حتى الخلايا العسكرية النائمة في النمسا وكندا.

تحية للشهداء الأبرار وللمناضلين في السجون، وتحية للعلماء وللقضاة الذين تصدوا ومازالوا يتصدون للظلم والقمع والإفتراء والتضليل. وتحية إلى كل المناضلين الشرفاء في داخل ليبيا وخارجها...

هذه المقالة مهداة لجموع الشعب الليبي باسره وللأجيال القادمة، ونرجو أن تكون بإذن الله خطوة على الطريق الصحيح في التأريخ لانقلاب سبتمبر 1969. ويرجى من الإخوة القراء الرجوع إلى المقالة من حين لآخر فقد تضاف إليها معلومات جديدة، مع تصويب أخطائنا إن وجدت.. ونرجو من كل من لديه تعليق أو معلومة أو صورة يرى أنها يمكن أن تثرى المقالة فليبادر بإرسالها إلينا وسيسعدنا إضافتها للمقالة. وجزاكم الله خيراً
مفتاح فرج

إهــداء

هذه الوثيقة التاريخية مهداة إلى المناضل الكبير السيد أحمد الزبير السنوسي الذى ذاق مرارة النفيّ القسري ثم السجن الإنفرادي واحداً وثلاثين عاماً، فاستحق بجدارة أن يوصف بأنه نيلسون مانديلا الليبي.


البـدايـة

في يوم خميس من شهر فبراير 1962 طلب رئيس أركان الجيش الليبي اللواء نورى الصديق بن اسماعيل من مدير مكتبه إحضار رئيس شركة أوكسيدنتال للنفط الأمريكية آرمند هامر(3) (1898 ـ1990) من مطار لبرق القريب من مدينة البيضاء ثم أخذه الى قصر السلام بطبرق لمقابلة الملك محمد إدريس السنوسي.

حضر هامر، وكان مكلفاً بمهمة خاصة من إدارة الرئيس الأمريكي جون كنيدي، بطائرة خاصة من جزيرة كريت اليونانية وبرفقته سكرتير. وفى قصر السلام كان فى استقباله عند الباب الخلفي للقصر البوصيرى إبراهيم الشلحي (توفى في حادث سيارة سنة 1964 وعمره ثلاثة وثلاثون عاماً) ناظر الخاصة الملكية والدكتور على الساحلي (4) رئيس الديوان الملكي. كان هامر يعتمر قبعة كبيرة ويرتدى حذاء ذا كعب عال مثل أحذية الكاوبوي.


اقتاد البوصيرى ضيفه إلى الدور الثانى لمقابلة الملك محمد إدريس محمد المهدى السنوسي (5) (1890 ـ 1983) ودامت المقابلة نحو ساعتين ونصف عاد بعدها هامر إلى مطار لبرق واستقل طائرته مغادرا البلاد وكانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل.

بعد عدة أيام التقى علي الساحلي بصديق له عند مقهى علي الطيرة قرب مدينة المرج وحكى له ما تم في تلك المقابلة فقال: بدأ (آرمند هامر) حديثه بأن سلم على الملك ثم تقدم إليه بطلبات قائلا: يامولانا، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، أى منذ بداية تصدير البترول، صار لكم رصيد لا بأس به من العملة الصعبة، وسيزداد مع الأيام سواء بارتفاع السعر او زيادة الضخ.. ولهذا فإن حكومتنا (الأمريكية) تطلب من جلالتكم أن تخصموا من مستحقاتكم نسبة كذا (حددها) من السنتات لمساعدة الدول الفقيرة فى أفريقيا، ولن يؤثر ذلك على دخلكم.


كان رد الملك واضحا وقاطعاً مذكراً إياه بعدة نقاط نقلها مستشار الملك د. عوني الدجاني إلى هامر قائلا:
أولا: بلادنا في أول أطوار البناء والإصلاح وقد بدأنا في خطة تنمية وإسكان.
ثانياً: لقد تضررت ليبيا أكثر من أي بلد آخر بسبب الإستعمار الإيطالي بجانب ما لحق بها من تدمير للمنشآت بسبب معارك وقعت على أراضيها.
ثالثاً: إن هناك دولا عربية ساندتنا أيام محنتنا هى أولى بالمساعدة.
رابعاً: مَن أف ـقر أفريقيا ونهب ثروتها وأخذ أبناءها عبيداً؟
خامساً: إننا لو فكرنا في هذا الأمر فإنه من الضروري عرضه على البرلمان مثل الكونجرس عندكم.



وعند نزول هامر السلم سمعه الساحلي يقول: "هذا البلد لا يحتاج الى كونجرس، نحن نريد شخصا واحدا نتفاهم معه". وكان تعليق الساحلي لصديقه في مقهى علي الطيرة: "أنا والله خفت من هذه الكلمة الأخيرة، إنهم قد يدبروا إنقلاب لنا، الأمريكان دول مجانين".

وها هى تمر السنون ويحقق النظام الحاكم في ليبيا طلبات أمريكا واليهودي آرمند هامر بالكامل وزيادة، ويضع إمكانيات الخزانة الليبية تحت تصرف السياسة الأمريكية في أفريقيا، ولعل آخرها كان في شهر أبريل الماضي عندما أمر العقيد القذافي بتخصيص خمسة مليارات من الدولارات لصرفها علىمشاريع استثمارية في أفريقيا دونما استشارة ل ـ"برلمان" أو "مؤتمر شعب عام" أو حتى "كونجرس".

وكلف القذافي كلا من الضابط أحمد رمضان الأصيبعي (سكرتير قلم القائد( ومحمد حسين لياس بالإشراف على توزيع هذه الأموال. والقذافي لا يفعل هذا حباً في أفريقيا أو الأفريقيين وإنما إرضاءً لأمريكا ونكاية في الشعب الليبي، وتوهما منه أنه يبني قوة عظمى إسمها "الولايات المتحدة الأفريقية" سوف ينصب هو أول رئيس لها مدى حياته.


ولا يسعنا الا أن نذكر هنا أحد المواقف النبيلة والمشرفة للملك إدريس والحكومة الليبية وكان ذلك أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي بالقاهرة فى يناير 1964 حين تبرعت ليبيا بمبلغ 55 مليون جنيه لصالح المجهود الحربي العربي سنوياً، بينما تبرعت السعودية بمبلغ 40 مليون جنيه والكويت بمبلغ 15 مليون جنيه. كان الرئيس جمال عبدالناصر في غاية السرور، مما جعله يقترح أن يكون الضابط الليبي وعضو الوفد الليبي في مؤتمر القمة العقيد الركن رمضان مصطفى بن صلاح (6) أحد مساعدي الفريق علي علي عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة وزميل الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري فيما بعد. استشهد الفريق رياض يوم الأحد 9 مارس 1969 وهو يتابع بنفسه سير المعارك على جبهة قناة السويس.

التجنـيد

بعد مقابلة آرمند هامر للملك إدريس، وبعد أن فشلت أمريكا في استمالة ولي العهد السيد الحسن الرضا السنوسي (7) (1928 ـ1992) أثناء زيارته لأمريكا في اكتوبر 1962 والتى دامت شهراً كاملا، بدأت المخابرات الأمريكية تبحث عن عملاء لها في الوسط المدني والعسكري. لقد كان لأمريكا ثلاثة أهداف رئيسة في منطقة الشرق الأوسط:

أولها: محاصرة المد الشيوعي والقضاء عليه بعد أن قلصت بريطانيا قواتها ونفوذها في المنطقة خصوصاً بعد حرب السويس سنة 1956
والثاني: ضمان تدفق النفط.
والثالث: ضمان بقاء وتفوق الكيان الصهيوني في فلسطين.



ومن أجل تحقيق هذه الأهداف كرست أمريكا جهدها لإقامة حكومات تدين لها بالتبعية في المنطقة. وبعد اكتشاف النفط في أبريل 1959 أصبحت ليبيا هدفاً للهيمنة والأطماع الأمريكية.
في بداية الأمر اهتمت المخابرات والسفارة الأمريكية بقيادة السفير ديفيد نيوسم (الذى شغل منصب سفير من أكتوبر 1965 إلى يونيو 1969) بالضباط خريجي مدرسة الزاوية العسكرية (8) وبعض ضباط كتائب طرابلسوأغلبهم برتبة نقيب أو رائد، وفتحت لهم بوابة مطار الملاحة (ويلس) بطرابلس بأن أنشأتعدة بارات ومراقص كان أشهرها بار كريزي هورس (Crazy Horse) حيثيذهب الضباط من جيش وشرطة لاحتساء الخمور ومجالسة الفتيات.


وكانت أكثر المشروبات تقدم للحاضرين مجانا أو بأسعار رمزية زهيدة. وزرعوا بين الضباط رواد تلك الأماكن عملاء عرباً أغلبهم فلسطينيون. كل هذا لأجل مراقبتهم واختيار من يصلح منهم للتعاون والدعم. ولكن السلطات الأمريكية نفضت أيديها عن أولئك الضباط بعد ما أدركت أن أغلبهم لا يصلح للمهمة.


سببت مسألة تردد ضباط ليبيين على مطار الملاحة ازعاجاًً وقلقاً شديدين للواء نوري الصديق بن اسماعيل9 رئيس أركان الجيش الليبي، فأصدر قرارا في بداية 1962 وزع على المعسكرات يمنع الضباط من ارتياد الحانات. كما كلف الإستخبارات العسكرية بمراقبة مداخل القاعدة وحصر المترددين على المطار من العسكريين الليبيين خصوصاً الذين يترددون على حفلات الشواذ.






بعد فترة وجيزة اكتشف ضباط المراقبة بقيادة المقدم نصرالدين هامان نائب رئيس الإستخبارات العسكرية ومسئول إستخبارات طرابلس، أمورا كثيرة أثارت الريبة والشكوك. وكان ثلاثة من الضباط الليبيين قد استقالوا من الجيش وتسلموا وظائف في القاعدة.

نجح الأمريكان في تجنيد أربعة ضباط من الرتب الصغيرة أثناء وجودهم في أمريكا لحضور دورات تدريبية، ورسب أغلبهم في الإختبار العملي مثل نوري شعلان (وهذا هو اسمه الحركي لدى المخابرات الأمريكية) والمعروف بتهوره وحبه للظهور، والذى كشفته المخابرات المصرية بكل سهولة في يوليو 1966 أثناء وجوده في القاهرة في مهمة ساذجة لجمع معلومات للمخابرات الأمريكية. عند وصوله إلى مطار بنغازى قادماً من القاهرة هرع شعلان إلى اللواء نوري الصديق رئيس الأركان ـ الذى كان في المطار آنذاك لاستقبال رئيس الأركان التركي ـ وسرد له تفاصيل ما كان يفعل في القاهرة ظاناً أن الضباط المتجمعين في المطار كانوا في انتظاره للقبض عليه. أدلى شعلان باعتراف كامل حول مهمته وحكم عليه بالحبس سنة وإخراج من الجيش.

واصل الأمريكان محاولاتهم لإيجاد من يحقق رغباتهم في ليبيا. فقد شعروا أنهم إذا لم يتحركوا بسرعة فسيؤول الحكم لا محالة للعقيد الركن عبدالعزير إبراهيم الشلحي. فقد تأكدوا أن العقيد الشلحي الذى يتمتع بكفاءة عسكرية وحائز على ثقة الملك إدريس ـ الذى كان يكلفه بالمهام الخاصة(10) ـ كان يعد العدة لتولي الحكم عبر إنقلاب سلمي. كما أن له ميولا قومية ولربما فطنوا لاتصالاته بالقيادة المصرية


الإخـتراق

قامت أمريكا منذ نهاية الخمسينيات بإنشاء شبكة من العملاء و"الأصدقاء الموالين" في ليبيا!! والصنف الأخير كان يضم عسكريين من جيش وشرطة ورجال أعمال وموظفين ومحامين. وسنتكلم هنا عن أخطر وأهم عميل لأمريكا في ليبيا ولربما في الشرق الأوسط، ألا وهو مصطفى كمال المهدوي المحامي. (11)

مصطفى المهدوي من مواليد مصر سنة 1932. تخرج من كلية الحقوق بالإسكندرية سنة 1959، ومن زملاء دفعته بالكلية إبراهيم الفقية حسن. عقب رجوعه إلى ليبيا عمل المهدوي بالقسم الفني بالمحكمة العليا بطرابلس. وهو مقيم حالياً بمنطقة الفويهات الغربية ببنغازى. كان ذا ثقافة واسعة، لبق الحديث. جندته المخابرات الأمريكية بسبب صلته العائلية والحميمة بمصطفى بن حليم رئيس الوزراء السابق.


كون المهدوي خلال فترة وجيزة صداقات كثيرة بين العسكريين والمدنيين. فمثلا كانت تعقد في بيته بطرابلس اجتماعات لمثقفين وشباب من طليعة النخب الفكرية والثقافية والعلميةفي البلاد، ضمت من الليبيين على وريث ـ رئيس تحرير جريدة البلاغ ـ (توفىفى حادث سيارة في طريق عودته من مصراته إلى طرابلس في نوفمبر 1970)والمحامي إبراهيم بشير الغويل (كان في نفس السيارة التى قتل فيها المرحوم على وريث ونجا من الحادث).

ومن الفلسطينيين د. أحمد صدقي الدجاني ود. أنيس القاسم، وعيسى القاسم، وفريد أبووائل ومن الأردن نواف جرادات، وغيرهم... بالإضافه إلى أصدقائه الضباط الأمريكان الذين كانوا يحضرون في بعض الأحيان حفلات أعياد ابنته الصغيرة.

كان المهدوى أثناء سكنه في طرابلس يقضى أيام الجمع مستجماً في مزرعة عائلة توفيق غرغور وكان صديقاً لإبنهم حبيب. في سنة 1970 استولت السلطات الليبية على المزرعة وعلى الفلل التى حولها ووزعتها بعد تقسيمها على عدد من المقربين واحتفظ العقيد القذافي لنفسه بأحسن تلك الفلل. وغرغور مواطن فلسطيني قدم للعيش في ليبيا بلد العدل والآمان بعد أن أمم الرئيس جمال عبدالناصر أمواله وممتلكاته في مصر ظلماً وعدواناً أوائل الستينيات، وهو ليس "واحد أجنبي أفاّق" كما نعته العقيد القذافي في خطابه يوم 1 مايو 2006. والقذافي حشر اسم غرغور في خطابه بعد أن بلغه خبر تقديم عائلة غرغور دعوى قضائية خارج ليبيا من أجل استرداد أموالهم وممتلكاتهم التى نهبت في ليبيا.

بالنسبه لنشاطاته داخل المؤسسة العسكرية الليبية فقد تعرف المهدوي "الإنسان البسيط والقاضي العادي" كما وصف نفسه على مجموعة من الضباط من بينهم النقيب عبدالحميد الجدايمي (خريج الكلية العسكرية بنغازي) والنقيب مصطفى نوري (خرّيج العراق) وضباط آخرون من ذوي الرتب الصغيرة. واتفقوا فيما بينهم على وضع مخطط تنفذه وحدات من كتيبة الدروع الأولى، ومقرها مدينة الخمس، بالتنسيق مع ضباط أمريكان موجودين بمطار مصراته لاعتقال الملك إدريس أثناء سفره براً إلى طرابلس وذلك في شهر فبراير 1966 وإجباره على التنازل على العرش لنخبة من الضباط ثم تعلن الثورة.

إلا أن هذا المشروع مات فى مهده بسبب سذاجته وأيضاً لرفض بعض الضباط الكبار التعاون معهم.

وكما كان معلوماً مسبقاً للأمريكان وللمهدوي حضر الملك إدريس إلى طرابلس براً في فبراير 1966، وكان غالباً ما يسافر بلا حراسة، وكان رفيقه الوحيد دائماً هو سائقه الرائد عبدالمولي. إلا أنه في هذه المرة كان يرافقه في سيارة أخرى اللواء مفتاح بوشاح (توفي في يوليو 1971) قائد قوات الأمن، وفي هذه الرحلة عالج الملك أسنانه في مستشفى مطار الملاحة الأمريكي.


كان المهدوي كثير التردد على قاعدة الملاحة الأمريكية وكان يدخلها بكارنيه (بطاقة) خاص يحمل رقم 157 صدر له من قيادة القاعدة. كان يشترى بعض حاجياته من متجر BX الموجود داخل المطار دون أن يدفع ثمنها، فقد كان لديه حساب مفتوح بصفته ضابط التجنيد الرئيسي. كانت مهمته الأساسية هى استقطاب الضباط الليبيين ثم دعوتهم للذهاب إلى القاعدة حتى يتمكن ضباط الإستخبارات الأمريكان من التعرف عليهم عن قرب، وكانت تقدم لهم المشروبات والمرطبات بالإضافه لبعض الهدايا من متجر BX.

في أغسطس من عام 1966 توجه المهدوي إلى كل من الأردن والكويت والبحرين ـ وربما الإمارات العربية التي كانت آنذاك تحت الوصاية البريطانية ـ برفقة وفد رفيع المستوى من المخابرات الأمريكية. واستغرقت الرحلة نحو عشرين يوماً، وفي نفس الرحلة زار إسرائيل. أخبرنا المهدوي عن زيارته للكويت والقدس (أخبار ليبيا 11 فبراير 2006) ـ هو طبعاً لم يحدد أي قدس ـ والمؤكد أنه زار القدس الغربية حيث تلقى علاجاً للأسنان في مستشفى هاداسا الاسرائيلي الكائن بمنطقة عين كريم.


ونسي المهدوي أن يخبرنا عن زيارته للبحرين حيث قابل أميرها الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (1933 ـ 1999) الذى أهداه هدايا قيمة، منها عباية مذهبة وساعة ثمينة عليها صورة الأمير. وندعو الله أن يطيل في عمر المهدوي ليحكي لنا الأسباب الحقيقية لزيارته لهذه الدول.


قبل حرب يونيو 1967 اتخذ جهاز أمن الدولة الذى كان يرأسه العقيد إسماعيل التويجيري قراراً لكشف نشاط عملاء أمريكا في ليبيا والحد منه، وكان على رأسهم مصطفى المهدوي، وذلك بالتنسيق مع الإستخبارات العسكرية والمخابرات الإنجليزية. وبسبب نشاطاته الواسعة وشبه العلنية، مستخدماً سيارته الفوكسل الخضراء في تنقلاته، قررت أجهزة الأمن الليبية تضييق الخناق عليه.

كما قام كل من اللواء نورى الصديق رئيس الأركان وعبدالحميد البكوش الذى كان وزيراً للعدل ثم رئيساً للوزراء، وبدافع الحس الوطني، بتنبيه بعض من مرؤسيهم بعدم الإتصال وبضرورة قطع علاقتهم بالعميل الخطير ـ حسب تعبيرهم ـ والمعروف لديهم بمصطفى المهدوي.


فى ربيع 1967 انتقل المهدوي للعمل في محكمة الإستئناف ببنغازى ليكون قريباً من معسكر قاريونس الذى كان يسمى "معسكر أمريكا" أو "معسكر المؤامرة" حيث كان يوجد العديد من مجموعة الضباط الوحدويون الأحرار وعلى رأسهم ملازم أول معمر بومنيار القذافي. فقد كلف المهدوي بمتابعة ملف الملازم معمر القذافي ـ بالإضافه لعمله الأساسي كضابط تجنيد ـ وكان يزوره بمعسكر قاريونس ببنغازى باستمرار لحين قيام إنقلاب سبتمبر. وكان القذافي، الضابط بسلاح الإشارة (المخابرة)، يسمح للمهدوي بإجراء مكالمات دولية من حجرة الإتصالات بالمعسكر.

في ربيع 1970 عرض القذافي على المهدوي تولى رئاسة محكمة الشعب فرفض (حسب ادعائه) لوجود علاقات عائلية بينه وبين بعض رجال العهد الملكي الذين مثلوا أمام تلك المحكمة، عندها طلب منه القذافي البقاء في عمله بمحكمة الإستئناف. وقام المهدوي بترشيح كل من القاضي عبدالعزيز النجار والشيخ محمود صبحى ليكونا أعضاء في المحكمة. إلا أن السبب الحقيقي لرفض المهدوي منصب رئاسة المحكمة هو لعلمه أنه كان عميلاً معروفاً ولو قبل لانكشفت الشبكة التي كان ينظمها للقيام بالإنقلاب... ولانتهت المسألة، لذا آثر البقاء بعيداً عن الأضواء.

ربما يعرف الكثير من الليبيين المواقف الوطنية للشيخ الفاضل محمود صبحى أثناء العهد الملكي ولكن القليل من يعرف مواقفه المبدأية والشجاعة أثناء عهد الإنقلاب. ولعل أقل موقف يحسب للشيخ الجليل ويكفيه فخراً هو قيامه بإرجاع مبلغ من المال أرسله له القذافي بعد أن زاره في بيته وشاهد أثاثه المتواضع.



فى معرض الحديث عن الوثائق السرية المفرج عنها من قبل الحكومة الأمريكية وردت الفقرة التالية بمجلة الإنقاذ التي كانت تصدرها الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا (العدد 47، سبتمبر 1998، ص 20): "ويلاحظ أنه في إطار الإستكمال الدوري لهذه التقارير فقد وردت رسالة من وزير الخارجية الأمريكية المستر دين راسك مؤرخة في 18 أبريل 1968 إلى السفارة الأمريكية في طرابلس تحثها على استكمال المعلومات الواردة في بعض التقارير التى سبق إرسالها. ومن الملفت للنظر أن رسالة الوزير، التى تضمنت ملاحظات حول أكثر من مائة إسم، قد طلبت إزاء عدد محدود من هذه الأسماء تزويد الوزارة بكل شئ عنها(need everything) وهذه الأسماء هي:

العقيد يونس العمراني، العقيد مختار إبراهيم البنغازي، الزعيم سالم بن طالب (مدير عام أمن طرابلس)، دكتور محمد البشتي، دكتور شكرى غانم (خبير نفط)، محمد أبو عياد اللافي الحاسي (رجل أعمال)، كامل حسن المقهور (محام)، مصطفى المهدوي (قاضي)، المقدم محمود بن ناجي، محمد انقا (رجل أعمال)، الحاج محمد مصطفى الشيباني (رجل أعمال)، مقدم شرطة محمد السوداني، بشير الويفاتي (خبير زراعي)، عقيد شرطة يونس بالقاسم على (مسؤول الأمن الداخلي لعدة سنوات بعد الإنقلاب)"

ويمكننا طرح التساؤلات التالية:

· ما هى التوجهات السياسية للأشخاص المذكورين بالقائمة؟
· ما هو موقع ودور د. شكرى غانم في هذه المجموعة؟
· ما سبب وجود هوائي ضخم بمزرعة محمد إبراهيم انقا منذ أواسط الستينات؟ كان الرائد عبدالسلام إجلود بعد الإنقلاب يتردد بشكل شبه يومي على مزرعة انقا والذى صار في ما بعد مديراً لأموال إجلود المهربة في الخارج.
· هل هى الكفاءة وحدها التى جعلت من العقيد يونس بلقاسم مسئولا عن الأمن في ليبيا في عهد الإنقلاب لحين تقاعده قبل سنوات؟


تولى المرحوم كامل المقهور إدارة أموال عائلة القذافي المهربة إلى أوربا بعد وفاة مديرها السابق المرحوم الغرياني الذى كان يقيم في أسبانيا. وهناك معلومات تشير إلى أنه يتولى إدارتها الآن الملياردير محمد على الحويج نائب رئيس الوزراء الليبي الحالي.




المؤامـرة

كان عام 1966 بداية العد التنازلي للاستقرار في ليبيا. ففي خريف ذلك العام وبعد رجوعه من دورة تدريبية ببريطانيا (التي لم يوفق في إكمالها لعدم اجتيازه الإمتحانات كما يقول أحد رفاقه المقربين) وقع الإختيار على الملازم معمر القذافي ليكون المنفذ لمآرب أمريكا في ليبيا. وكان قد تعرض للمراقبة والإختبار لمدة سنة أي منذ تخرجه من الكلية العسكرية الملكية ببنغازى. (12) وعلى الفور بدأ الأمريكان في تدريبه وتوجيهه، وحمايته بطبيعة الحال، من أعين المخابرات الليبية والإنجليزية والمصرية. وشاءت الأقدار أن يكون مدرسه وموجهه السياسي سوى العميل وخبير الإنقلابات الزنديق مصطفى كمال المهدوي.

لقد درس الأمريكان تاريخ القذافي ونفسيته بدقة، فعرفوا عن وجود شائعات حول نسبه، وأنه طرد من مدارس سبها آواخر 1961 لسوء أخلاقه وشذوده وليس ـ كما يدعي ـ بسبب أعماله الوطنية، وهذا بشهادة مدرسيه. كما عرفوا أنه معجب بشخصية الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وكان يتميز بالحذر والكتمان، ولديه طموح جارف للوصول إلى السلطة.


لقد أتت أمريكا بشخص مجهول وغير معروف بولائه لها حتى لا يجلب عليه المشاكل وينكشف أمره. ومما يؤكد ما كان معلوماً لدينا ما جاء في مقالة للسيد عبدالحميد البكوش نشرتها مجلة الوسط في 16 أكتوبر 1995: "... كان ضباط الإنقلاب صغاراً غير معروفين للناس. وذكرني ذلك بما قاله لي سفير أمريكي (ديفيد نيوسم؟) وأنا رئيس وزراء (من 26 ـ10 ـ1967 إلى 7 ـ9 ـ1968)، إذ كان يشك في رغبتي في الإستيلاء على الحكم فجاءني زائراُ يستطلع تلك الرغبة، ونصحني بأني إذا فكرت في ذلك فإن علي أن أتجنب إشراك أسماء معروفة، لأن الناس تحكم عليهم من أول يوم، وأن من الذكاء مشاركة أسماء مجهولة تستطيع السيطرة على الأمور والجميع يتوقعون منها ما لا يعرفون..."

لقد صدق السفير ـ وليكن أي سفير أمريكي ـ فبناءاً على هذه الإستراتيجية تم تجنيد القذافي ومجموعته من الضباط الأحداث سنة 1966.

وما خفي عن البكوش في ذلك الوقت أن المخابرات الأمريكية والسفير نيوسم قد استقرا على استغلال مجموعة الضباط الوحديون الأحرار لتنفيذ مآربهم ولم تكن نصيحة (السفير) له سوى حيلة بارعة ليطمئنه أن الأمريكان لم يكن لديهم أي مخطط إنقلابي، وليصرفوا الأنظار عن عملائهم الكثر.

لقد كانت مواجهة غير متكافئة بين سفير تسنده آلة إستخباراتية ضخمة (بلغت ميزانية وكالة الإستخبارات المركزية ـ السي آي إيه CIA ـ وحدها سنة 1966 (505) مليون دولار وفي سنة 1998 وحسب المصادر الرسمية بلغت ميزانية كافة الأجهزة الإستخباراتية الأمريكية 26 مليار دولار) وبين رئيس وزراء شاب لا يتجاوز عمره خمسة وثلاثين عاماً يتبعه جهاز إستخبارات صغير، حديث النشأة، قليل الإمكانيات، ومخترق.

ويبدو أن البكوش لم يعد في ذلك الوقت كسابق عهده متابعاًً لتحركات المهدوي، ونحن لا نلومه على هذه الغفلة فقد توارى المهدوي عن الأنظار بعض الشئ بعد إنتقاله إلى بنغازي في ربيع 1967 بناء على أوامر المخابرات الأمريكية. لقد كانت ليبيا فريسة وغنيمة سهلة للمخابرات الأمريكية.

وقد نصح الأمريكان مجموعة الضباط الوحدويون الأحرار بالإبتعاد عن الأحزاب السياسية المدنية (بعث، إخوان وقوميين) والتيارات والتنظيمات المتنافسة داخل الجيش وكانت في ذلك الوقت ثلاث مجموعات رئيسة:

· مجموعة الشلحي التى تضم خريجي مصر وبعض من خريجي بنغازى
· مجموعة العراق: سمي بتنظيم العراق لأن معظم أعضائه كانوا ضباطاً من خريجي كلية العراق العسكرية. كانت توجهات أعضائه قومية ولم يكن تنظيماً بعثياً
· ومجموعة خريجي مدرسة الزاوية العسكرية

وقد تمكنت أمريكا من خلال وجود هذا الخلاف والتنافر بين ضباط الجيش إلى إيجاد ثغرة دخلت من خلالها وأمسكت بزمام الأمور مستغلة في نفس الوقت إمكانيات كل مجموعة لمصلحة تنظيم الضباط الصغار الذى كان يرأسه الملازم معمر القذافي.

كان اختيار مجموعة الملازمين دون غيرهم من الرتب لأسباب وجيهة من وجهة نظر الأمريكان أهمها أن الضباط الصغار عادة ما يكونون قريبين من الجنود حيث هم آمروهم المباشرون، وأغلبهم يباتون في الثكنات ولا تشغلهم مسئوليات عائلية. كما أن لديهم طموحاً واستعداداً للمغامرة، وأن تحركاتهم ليلاً او نهاراً لا تثير شبهات الأجهزة الأمنية مثل ما تثيره تحركات الضباط الكبار.

وقد أطلق المهدوي والأمريكان على المجموعة الإنقلابية الأسم الحركي "Black Boots البلاك بوتس" حيث كان صغار الضباط في الجيش الليبي آنذاك يرتدون الأحذية السوداء. ويذكر الليبيون أن أول صورة نشرت لمعمر القذافي على صفحات الجرائد الليبية أياما بعد نجاح الإنقلاب ظهر فيها جالساً على مكتب مرتدياً حذاءه (بوته) الأسود، وكأن الغرض منها توصيل رسالة مشفرة للمعنيين أن تنظيم "البلاك بوتس" قد انتصر.

وقد نقل المهدوي تصور آخر للمخططين الأمريكان في مسألة اختيار الملازمين (القذافي وجماعته) دون غيرهم من الرتب:
"إن الضابط الكبير الذى يبرر اختيار ملازم عديم الخبرة لهذا العمل الضخم وهو إسقاط دولة أهم شئ عنده هو أن الصغير يمكن تدريبه وإعادة تشكيله كعجينة لما نريد، بل ننسخه من جديد ونحوله إلى شئ جديد وكيان يعمل بسهوله لنا. فتفريغ مخه سهل فلم تثبت بعد في عقله كل ما يعتقد حتى اننا ممكن أن نحوله عن دينه إن شئنا. وهذه تجارب نحن نعمل ونقوم بها ويعرفها عملاؤنا الراسخون في عملهم وعلمهم وتجاربهم. لهذا كان الأختيار للأحدث دون الأقدم".



كلام المهدوي هذا لم يأت من فراغ فهو بالتأكيد كان على علم بالتجارب التى كان يقوم بها العلماء الأمريكان في مجال السيطرة على العقل أو غسل الأدمغة (mind control / brainwashing). وربما كان على علم أيضاً بالتجارب السرية التى كانت وكالة الإستخبارات الأمريكية تجريها منذ عام 1953 في مجال التأثير والسيطرة على سلوك الإنسان وقد أعطت الوكالة لهذا المشروع الأسم الكودي MK ـULTRA.

وكانت جريدة (النيويورك تايمز) أول من نبه الرأي العام الأمريكي في ديسمبر 1974 عن وجود هذه التجارب غير القانونية حيث كانت تجرى على أفراد دون علمهم بماهية التجارب ولا عن نوع العقاقير التى كانت تعطى لهم.

بعد إنكشاف أمر التجارب شكل الكونجرس الأمريكي سنة 1975 لجنة تحقيق التى أمرت بإيقاف التجارب وتعويض المتضررين. وكان ريتشارد هيلمز (مدير السي آي إيه CIA) من 1966 إلى 1973 وأحد مهندسي المشروع) وقبل تركه رئاسة الوكالة عام 1973 قد أمر بإتلاف الوثائق والملفات الخاصة بمشروع MK ـULTRA إلا أن القليل من هذه الوثائق نجا من الإتلاف ووجد طريقة إلى الصحافة سنة 1974. في سنة 1977 صرحا ضابطان سابقان في ال ـ (سي آي إيه) هما فكتور ماندريتي ومايلز كوبلاند أن التجارب ما زالت مستمرة وذكر كوبلاند أن أغلب المعلومات عن مشروع MK ـULTRA قد أخفيت عن لجنة تحقيق.

كان الهدف الأساسي من التجارب هو اكتشاف عقاقير لغسل أدمغة الأفراد ليكونوا عملاء وجواسيس دون علمهم. وكانت تستعمل في التجارب مواد مخدرة أهمها مخدر إل إس دى (LSD) بالإضافة للتنويم المغناطيسي. تصريحات المهدوي تؤكد أن الأمريكان استعملوا أحدث الأساليب العلمية للتجنيد والسيطرة في تعاملهم مع مجموعة الضباط الوحدويون الأحرار.

ولا يخفى على المعنيين أن وكالة الإستخبارات الأمريكية تحتفظ بملفات كاملة بالصوت والصورة عن اجتماعات ممثليها (controllers) بالمهدوي قبل وبعد الأول من سبتمبر 1969.

وهذا الأسلوب متبع مع كل الجماعات والتنظيمات المتعاونة مع الإستخبارات الأمريكية والغربية عموما، كما ذكر كثير من عملاء الإستخبارات الأمريكية الأمريكان في مذكراتهم المنشورة وفي ما كتبوه بعد استقالتهم من الوكالة. وقد تعلمت الأنظمة الإستبدادية من ذلك فعمدت إلى استعمال نفس الأسلوب ضد معارضيها وشعوبها معتقدين أن هذه الأساليب الخسيسة والمحرمة شرعاً وقانوناً قد تطيل من أمد حكمها.

وقبل نهاية 1966 تم الاتفاق ما بين القذافي والأمريكان على ما يلي:
جلاء القواعد الأمريكية مع تحييد بريطانيا وإقناع حكومتها بإخلاء قواعدها في ليبيا على أن يتم فيما بعد الاتفاق على دفع تعويضات مناسبة للدولتين. كان اتجاه الأمريكان هو إخلاء القواعد ـ خاصة داخل البلاد التى قد تحدث بها إضطرابات بسبب رفض شعوبها وجود تلك القواعد على أراضيها ـ والإستعاضة عنها بحاملات الطائرات والطائرات ذات الإرتفاعات الشاهقة والطويلة المدى مثل طائرات ب52. وعندما حاول الآلاف من المتظاهرين الهجوم على قاعدة الملاحة يوم 9 يونيو 1967 شعروا بخطورة وجود القاعدة على الأراضى الليبية. وكبادرة لإظهار حسن النية قامت السلطات الأمريكية بإخلاء وتسليم مخازنها بميناء طرابلس البحري إلى السلطات الليبية
أن يخرج من ليبيا عند حدوث الإنقلاب كل من مصطفى بن حليم (13) رئيس الوزراء السابق ويحي عمر سعيد، (14) وأن يقوم الإنقلابيون بنقلهما إلى مطار الملاحة الأمريكي بطرابلس ليسافرا من هناك حيث ستكون كل منافذ ليبيا براً وبحراً وجواً مغلقة، وحذروا من تعرضهما لأي أذى

البحث عن ضابطين برتبة مقدم أو رائد لينضما للمجموعة المختارة، أحدهما يقوم بالسيطرة على الأمن، أي وزير داخلية. والآخر يتولي شئون الجيش، أي وزير دفاع بحجة أن معظم أعضاء تنظيم القذافي من الضباط الصغار ولن يتمكنوا في المرحلة الأولى من التفاهم مع ضباط أقدم وأعلى رتبة منهم في هاتين المؤسستين.

وهكذا قام المهدوي باستقدام فيما بعد كلا من المقدم آدم الحواز والمقدم موسى أحمد (15) ليكونا أعضاء في تنظيم القذافي... ثم غدر بهما القذافي بعد أن تحقق له ما أراد(16) حيث تم القبض عليهما يوم 7 ديسمبر 1969 بتهمه التآمر لقلب نظام الحكم وحكم عليهما بالسجن ثم بالإعدام ثم خفض إلى السجن المؤبد. أطلق سراح المقدم موسى أحمد في مارس 1988 وتوفي في 24 أبريل 2005 إثر تعرضه ـ حسب الرواية الرسمية ـ لهجوم بالسكين من قبل مجموعة من اللصوص الأفارقة... ولا يعرف مصير زميله المقدم آدم الحواز
عند القبض على المقدم آدم الحواز نهض العقيد أحمد المدفعي (آمر صنف المخابرة بمعسكر قاريونس) وكان جالساً في زنزانته بالسجن المركزي بطرابلس وصاح بصوت عال: "لقد تم القبض على من اختارته أمريكا ومن كان يساير فيهم... إن أمريكا يا عالم لها يد في هذا الموضوع!" ونظراً لقربه من الحواز فهو آمره المباشر، فلا بد أن بعض الأمور اتضحت له بعد القبض على الحواز.


كان العقيد أحمد المدفعي والمقدم آدم الحواز عضوين في لجنة الإتصالات الأمريكية الليبية لتوحيد واستكمال خطوط الاتصالات المدنية والعسكرية، وقبل الإنقلاب تم تنحية العقيد المدفعي من اللجنة والحواز ـ الذى كان محبوباً في الجيش وكان أول دفعته ـ كان آمر سرية المخابرة بمعسكر قاريونس التي تضم مجموعة من الضباط منهم معمر القذافي وعوض حمزه وامحمد القريف ومصطفى الخروبي (أعضاء مجلس الإنقلاب) وحسين قرّيو. والأخير له قصة أو بالأصح مأساة سنتطرق إليها مستقبلاً إن شاء الله.
عند ساعة الصفر يقوم الأمريكان بضمان تزويد الإنقلابيين بالسلاح والذخيرة.
تعهد الأمريكان بتسهيل مهام الإستطلاع والتدريب للطيران الحربي الليبي المتمركز بمطار الملاحة.
إعطاء الإنقلابيين مطلق الحرية في تحديد سياستهم الداخلية والخارجية.
التعهد بتشكيل حكومة مدنية في مدة أقصاها سنة ليتفرغ بعدها الإنقلابيون للجيش، كما تعهدوا بحماية المصالح الغربية، ووعدوا باستمرار ضخ البترول الليبي.

باختصار، لقد تم الاتفاق على تبادل المصالح، الضباط الوحدويون الأحرار لهم السلطة وللأمريكان المصالح الكاملة في ليبيا.

ولضمان تنفيذ هذه الاتفاقات قامت المخابرات الأمريكية من ناحيتها بزرع عملاء وعيون لها في كل مكان مستخدمة كافة الوسائل والإمكانيات، وكان من بينها الإستعانه بعشرات المتطوعين الأمريكان بفرق السلام (Peace Corps)المتواجدون على الأراضي الليبية وبالعديد من الموظفين الأمريكان والعرب بشركات النفط وفي المراكز الثقافية الأمريكية.
فمثلاً في سنة 1963 قامت شركة بكتل لخدمات البترول (Bechtel) بتعيين عميليين للسي آي إيه بإدارة شئون العاملين. والأهم من هذا كله فقد تم ومنذ سنة 1966 اختراق تنظيم العقيد عبدالعزيز الشلحي وتم زرع ضباطاً عملاء في مكتبه، والمهدوي كان على علم تام بهذا الأمر الخطير.

كما قامت أمريكا سنة 1966 بتعيين ضابط بسلاح الجو الأمريكي في طبرق ليتجسس على الملك وعلى تحركات عمر الشلحي ـ ناظر الخاصة الملكية وشقيق العقيد عبدالعزيز ـ وعلى تحركات الإنجليز حيث توجد قاعدتهم الجوية في "مطار العدم".

العوامل الأساسية التى ساعدت على الإنهيار الكامل للنظام الملكي:
وجود الملك إدريس خارج ليبيا، حيث كان قد غادرها إلى اليونان ثم إلى مدينة بورصة التركية في يونيو 1969.

إقالة اللواء نورى الصديق من رئاسة أركان الجيش في أكتوبر 1968 وتعيينه عضواً بمجلس الشيوخ مع منحه رتبة فريق. لقد كادت أن تتجمع لدى اللواء نورى ـ الذى أحاط نفسه بضباط ذو كفاءة وإخلاص ووطنية ـ كل خيوط المؤامرة الأمريكية ولكن كما سنرى كان للعقيد عبدالعزيز الشلحي رأي آخر.


إختراق المخابرات الأمريكية لأجهزة الأمن الليبية. فمثلا يوم 12 مارس 1969 وكان يوم عيد ميلاد الملك (اشتهر ذلك اليوم أيضاً بإحياء أم كلثوم حفلة غنائية بمدينة طرابلس) كلف المقدم نصر الدين هامان الرائد أحمد بوغولة بالذهاب إلى منطقة سرت لمراقبة تحركات واجتماعات أعضاء الضباط الوحدويون الأحرار والقبض عليهم. ذهب بوغولة إلى سرت وتأكد من وجود اجتماع للإنقلابيين وشاهد القذافي وهو يصل إلى مكان الاجتماع بسيارة فولكس واجن زرقاء، إلا أنه تجاهل أوامر المقدم هامان وبذل جهداً كبيراً فيما بعد لطمس وإخفاء الأدلة التى تؤكد حدوث الأجتماع. وبعد فترة وجيزة اكتشف المقدم هامان أن الرائد بوغولة وزميله في الإستخبارات يوسف مانة كانا على اتصال بالمهدوي.

تمكن الأمريكان من معرفة تاريخ إستلام الشلحي للسلطة من خلال ثلاثة مصادر:

الأول: في ربيع 1969 أثناء "زردة" (نزهة) للقبائل في منطقة الصفصاف بالجبل الأخضر طلب الشيخ المجاهد عبدالحميد العبار(17) رئيس مجلس الشيوخ وزعيم قبيلة "العواقير"، من المقدم موسى أحمد "الحاسي" عمل أي شئ لمنع آل الشلحي "البراعصة" من تولي مقاليد السلطة في ليبيا، قائلا: "كفاية عليهم" حسب تعبير الشيخ... وباح له بالسر الخطير وهو أن الشلحي سيستلم السلطة في شهر سبتمبر من ذلك العام. (18)


والثاني: هو الملازم إبراهيم سليمان الشلماني الضابط المدسوس داخل مكتب الشلحي الذى كان يتصنت على مكالمات وإتصالات الشلحي، فقد أعلم الشلماني القذافي والمهدوي عن موعد حركة الشلحي بعد تصنته على محاورة تليفونية بين العقيد عبدالعزيز وأخيه عمر الموجود خارج ليبيا ذكر فيها التاريخ 5 سبتمبر.

والثالث: هو ضابط مخابرات إنجليزي إستدرجه الأمريكان فى حفلة عشاء بمدينة طبرق وعرفوا منه كلمة السر.

من أجل تدعيم مركزه وتولى الموالين له مراكز قيادية بالجيش قبل استلامه السلطة يوم الجمعة 5 سبتمبر 1969 وتحويل ليبيا من ملكية إلى جمهورية قام العقيد عبدالعزيزالشلحي، الذى كان يشغل منصب مدير التدريب ورئيس لجنة إعادة تنظيم الجيش، بتعيين صهره اللواء السنوسي شمس الدين رئيسا للأركان ـ وكان يعانى من شلل خفيف ـ وعين صهره الآخرالعقيد عون ارحومة شقيفة مديراً للحركات (العمليات). أما وزير الدفاع حامد العبيدي (توفى في سجن بنغازى في 6 فبراير 1970) فكان يعانى من مشاكل خاصة جعلته غير قادر على القيام بواجبه كوزير دفاع بكفاءة. وكان صديق العقيد الشلحي وزميل دفعته بالكلية الحربية المصرية (19) العقيد حسين على الفرجاني (20) يرأس الإستخبارات العسكرية.

كما قام العقيد الشلحي بتحويل العديد من الضباط الأكفاء، منهم حوالى نصف خريجي كلية العراق العسكرية،(21) إلي الوظائف الإدارية البعيدة عن نطاق العسكرية الفعلية.

ومع ذلك فقد حاول العقيد الركن صالح السنوسي عبدالسيد (22) توحيد الصفوف بإقناع زملائه خريجي العراق بضرورة التعاون وتنسيق المواقف مع العقيد الشلحي إلا أن قائد المجموعة العقيد الركن فوزى الدغيلى رفض رفضاً باتاً هذا الإقتراح وقال: "نحن لا نستجدي أحداً". وبسبب موقفه المتشدد هذا فصل العقيد فوزى من التنظيم. وقد حاول بعض الضباط خريجي العراق رأب الصدع والإلتحام مع العقيد الشلحي والذى أبدى رغبة في التعاون إلا أن الوقت كان قد فات وكانت إرادة الله هى الغالبة. وفي النهاية لم يجد النظام الملكي ولا العقيد الشلحي من يدافع عنهم في ساعة العسرة، وانتهى المطاف بالجميع الى دخولهم السجن.

ولا بد أن نشير إلي أن العقيد عبدالعزيز الشلحي كان في بادئ الأمر متردداً في القيام بحركته، فمنذ سنة 1966 حذره زملاؤه وكان من بينهم المرحوم العقيد عبدالله سويسي من مغبة عدم حسم الأمور وضرورة إنقاذ البلد من المغامرين ومن الهيمنة الأمريكية فنهرهم العقيد الشلحي قائلاً: الملك إدريس في مقام والدى ولا يمكن أن أخونه أو أنقلب عليه. لقد كان في اعتقاده أنه بامكانه أن يواجه مكر وخداع أمريكا.

تأثير الإعلام المصرى... خاصة إذاعة صوت العرب.. التي كانت تحرض على التمرد وتؤجج الجماهير العربية ضد الأنظمة الحاكمة والملكية منها خاصة بحكم أنها تابعة للأمريكان والإنجليز.

بداية تفشي الفساد السياسي والاقتصادي في الدولة.

وتنفيذاً لما اتفق عليه سنة 1966 وقع ما يلي:

فجر الأول من سبتمبر وقبل إذاعة البيان الأول للإنقلاب تم توحيد البث الإذاعي لأول مرة في ليبيا. كما تم تشغيل منظومة المخابرة العسكرية التى أمنت الإتصالات بين جميع وحدات الجيش. وكانت الشركات الأمريكية هي المخططة والمنفذة لهذا المشروع المهم... مما كان له الأثر المباشر في نجاح إنقلاب سبتمبر 69.

عند الساعة الثالثة من صباح الاثنين الأول من سبتمبر 1969، وبالقرب من أحد مداخل مدينة طرابلس الجنوبية، قامت سيارة وقود عسكرية أمريكية يقودها جندى أمريكي أسود بتزويد رتل المدرعات الذى كان يقوده الضابط الجرئ النقيب إمحمد الحاراتي بالوقود. ونكاد نجزم بأن سبب مقتل النقيب الحاراتي في حادث سيارة على طريق طرابلس الخمس في أكتوبر 1970 كان بسبب إفشائه لهذا السر الخطير. وقد قتل في نفس الحادث اثنان من أصدقائه أحدهما هو محمد العريفي.






عند الساعة السابعة من صباح يوم الإنقلاب اتصل العقيد مختار كانون حكمدار مرور طرابلس هاتفياً بالعقيد على عقيل مدير الأمن العام الذى كان يقاوم منذ الصباح الباكر مع ثلاثة من ضباط الشرطة ومجموعة من الجنود بعضاً من أفراد الجيش المدعمين بمدرعة والذين كانوا يحاولون اقتحام مبنى مديرية الأمن المحاذي لقصر الخلد بطرابلس. وبعد تبادل بعض الكلمات قال له العقيد عقيل: "أنت يا مختار تقول لي سلم المبنى واترك سلاحك هكذا مثل ما قالوه لي الأمريكان... فقد اتصل بي قائد مطار الملاحة المستر جو (هو العقيد و"الماسوني" دانيل جيمس (1920 ـ 1978)، تولى قيادة مطار الملاحة من أغسطس 1969 وحتى مارس 1970 وهو القائد الفعلي لإنقلاب سبتمبر) يأمرني بعدم إفتعال مشاكل مع المسيطرين على البلد لأن كل شئ انتهى..."


كل هذا ومعمر القذافي كان ـ كما تؤكد عدة مصادر ـ مستلقياً على سريره في معسكر قاريونس يستمع الى الأناشيد العسكرية وقد وضع رجلا على رجل، ولم يصل إلى مبنى الإذاعة ببنغازى إلا عند الساعة السادسة إلا عشر دقائق"... وذلك حسب رواية اثنين من "الضباط الوحدوين الأحرار" هما الملازم عبدالفتاح يونس والرائد عبدالمنعم الهوني.



عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً دخل المقدم مختار الدعوكي، المسئول المالي بمعسكر العزيزية، إلى حجرة بمعسكر العزيزية مليئة بالضباط، فأدى التحية للعقيد مفتاح الباح وقال: مبروك يا أفندم، معتقداً أنه قائد الإنقلاب. فرد عليه الباح مبتسماً: مبروك على إيه يا أهبل.. اجلس. وكان بحوزة المقدم الدعوكي جوازات وتذاكر سفر لمجموعة من قادة الإنقلاب كان من المفروض سفرهم عند الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، الأول من سبتمبر، لحضور دورات تدريبية في بريطانيا.

وكان الفوج الأول من الضباط المحتجزين يضم كل من العقداء عون ارحومه وعزيز شنيب ومفتاح الباح والمقدمون نصرالدين هامان وبالعيد مرعي وشعبان عمارة. وقد استغرب هؤلاء الضباط دقة التخطيط فقد كانت الآسرة والبطاطين والمأكولات جاهزة بالمعسكر لاستقبال المعتقلين ولا يستطيع حفنة من الملازمين القيام بذلك.


عند الساعة العاشرة وصلت إلى معسكر العزيزية مدرعات من نوع (صلاح الدين) و(فريت) و(سراسين) وعليها جنود يتصايحون فوقف النقيب عبدالسلام إجلود عضو مجلس الإنقلاب والرائد الركن لاحقاً ومعه سلاحه يحييهم وصاح: "لقد فتحوا لنا مخازن الأسلحة، الآن يا اخوان الثورة نجحت!" وأمر رئيس العرفاء (بحرية) سالم سعيد أمين عام مجلس الوزراء، والعقيد فيما بعد، بإحضارالشاى للضباط المحتجزين، فقد قام ضباط أمريكيون بفتح مخازن السلاح والذخيرة في معسكري قرجي وبئر الأسطى ميلاد وتسليم 180 مدرعة جديدة للإنقلابيين. هذه المدرعات كانت محجوزة لهذا الغرض، ومنعت أيدى الجيش والقوة المتحركة والشرطة من الوصول اليها قبل ذلك التاريخ بحجة أنه لا بد من التدريب عليها وإجراء الصيانة اللازمة.


وأثناء إعداد الشاى بدأ النقيب إجلود في الثرثرة سارداً البطولات التى قام بها صباح ذلك اليوم وكيف أنه اقتحم بيت أحمد عون سوف وزير الداخلية الأسبق واستولى على الحلاطة )جراب السلاح والذخيرة مصنوع من الجلد يلبسه المحارب حول صدره) الخاصة بالمجاهد عون محمد سوف المحمودي والد أحمد، وكيف استولى أيضاً على سيف المجاهد المهدى إليه من قبل أحد السلاطين العثمانيين، وكيف أنه أهان وزيرا سابقا وجعله يزحف على ركبتيه وكيف شتم وزير الزراعة حامد بوسرويل لأنه لم يهتم بطلبات والده.

عند الساعة الحادية عشرة صباحاً قام النقيب عبدالمنعم الهوني، عضو مجلس قيادة الإنقلاب ورئيس المخابرات العامة لاحقاً، والنقيب عبدالمجيد هامان بتوصيل يحي عمر سعيد، الذى اصطحب معه أكثر من عشرين حقيبة تضم بين طياتها ثروة من المجوهرات، من بيته بميدان القاديسية ـ الوسام الذهبي سابقا ـ إلى مطار الملاحة الأمريكي وذلك بأمر من معمر القذافي شخصياً وبالتنسيق مع العقيد (دانيل جيمس) آمر مطار الملاحة وضابط المخابرات الأمريكي الجنرال (جوزيف كابوتشي).

أما مصطفى بن حليم فقد أبلغته المخابرات الأمريكية ـ كما أبلغت رؤساء شركات النفط الأمريكية العاملة في ليبيا ـ بضرورة حزم حقائبة قبل الأول من سبتمبر فغادر ليبيا يوم الاثنين 25 أغسطس 1969.

شكل القذافي لجنة سرية برئاسة الرائد عبدالسلام إجلود ـ "محقق الجلاء" كما وصف على ملصقات صغيرة ظهرت عقب إنتهاء مسرحية مفاوضات الجلاء في 15 ديسمبر 1969 ـ وعضوية النقيب طيار فتحى بن طاهر(23) والمستشار القانوني محمود البكوش للتفاوض مع الأمريكان والإنجليز بخصوص تعويض الدولتين عن قواعدهما في ليبيا. وبدون تردد وافق الإنقلابيون على دفع ثلاثة مليارات دولار لأمريكا و800 مليون جنيه استرليني لبريطانيا. وكانت هذه الصفقة أشبه بطوق نجاة لبريطانيا التى كانت تعاني آنذاك من مشاكل اقتصادية جمة. وبحسبة بسيطة تكون الدولتان قد إسترجعتا ما دفعتاه مقابل تأجيرهما للقواعد، أضعافاً مضاعفة.


بعد الإنقلاب لم تتوقف الطلعات التدريبية للطيران الحربي لدول حلف الأطلنطي (الناتو) فوق الأجواء الليبية والمتواجد على متن حاملات طائرات الأسطول السادس الأمريكي والقواعد العسكرية في أوروبا، بل وبحسب اتفاقات 1966 قام القذافي بتعيين ضابط برتبة نقيب بوزارة الخارجية الليبية ليقوم بمهمة التنسيق لطلعات طيران الحلف مع القيادات العسكرية المتواجدة بمقر القيادة الجنوبية للحلف الأطلنطي بمدينة نابولي الإيطالية. وحسب علمنا فهذه الأتفاقية ما زالت سارية المفعول ولم تلغ.

الخديـعة

"إن الشرط اللازم لبقاء أي حاكم فى السلطة... واستمرار تقدمه في مجال البناء والإصلاح هو أن يظهر بمظهر يستحيل القول معه أنه صنيعة لنا، وأن يتصرف بطريقة لا تظهر أي انسجام مع أذواقنا وميولنا. وباختصار، فإن مساندتنا لاي زعيم للوصول الى سدة الحكم والبقاء هناك حتى يحقق لنا بعض المصالح التى نريدها لا بد أن ترتطم بالحقيقة القاسية وهي أنه لا بد له من توجيه بعض الإساءات لنا حتى يتمكن من المحافظة على السلطة ويضمن استمرارها. كما أن هيكل النظام السياسي الذي يتبع ذاك الحاكم لا بد أن يكون طبيعياً وفطرياً وغير مصطنع، وبالتالي يجب أن يتضمن بعض العناصر التي تضمر عداء لمصالحنا."


(رجل المخابرات الأمريكي مايلز كوبلاند في كتابه "لعبة الأمم"، 1969)


مغادرة السفير الأمريكي ديفيد نيوسم ليبيا نهائياً في شهر يونيو 1969 حتى يبعد الشبهه أن له أو للسفارة أى دخل فيما سيحدث في سبتمبر 1969. كما أن السفير الجديد جوزيف بالمر استلم عمله أوائل اكتوبر1969.


قامت أمريكا بجهد غير عادى لمساعدة الحكومة الليبية في بناء شبكة الإتصال اللاسلكي المخصصة لأجهزة الأمن والجيش وفي توحيد البث الإذاعي قبل الإنقلاب بشهور حتى تكون جميعها جاهزة يوم الأول من سبتمبر 1969.

الإعلان صبيحة يوم الإنقلاب عن تعيين العقيد الركن سعد الدين أبوشويرب رئيساً لأركان الجيش مع أنه استقال من الجيش آواخر 1967 (كان آخر منصب تقلده قبل استقالته هو آمر كتيبة الدروع الثانية) وكان يعمل كمحرر عقود من مكتبه بشارع عمر المختار بطرابلس، ويوم الإنقلاب كان موجوداً مع اسرته بالعاصمة الإسبانية مدريد. وقد فوجئ العقيد أبوشويرب بنشر صورته على الجرائد وبتعيينه رئيساً لأركان الجيش الليبي فتوجه إلى روما وبعد وصوله هناك اتصل به يحى عمر وصالح مسعود بويصير(24) (أول وزير خارجية في عهد الإنقلاب) وطلبا منه التوجه فوراً إلى ليبيا لإستلام عمله كرئيس للأركان.يوم الاثنين 8 سبتمبر 1969 اصطحب بويصير العقيد أبوشوريب بالطائرة إلى تونس ثم إلى الحدود الليبية البرية حيث وجدا في انتظارهما سيارة عسكرية وبدلة عسكرية ليرتديها أبوشويرب كي يدخل البلد في الزي العسكري. بقى العقيد أبوشويرب أربعين يوماً بمعسكر باب العزيزية يزاول عمله كرئيس للأركان ثم طلب منه أعضاء مجلس الإنقلاب الإستقاله بعد أن استقرت لهم الأمور وأدى العقيد أبوشويرب (دون علمه) الدور المرسوم له من قبل المخابرات الأمريكية ثم عينه الإنقلابييون سفيراً بالقاهرة. ولا شك أن الإعلان عن تعيين العقيد أبوشويرب رئيساً للأركان أربك الضباط الموالين للملك وللشلحي ومنعهم من اتخاد أى إجراء ضد الإنقلابيين، حيث أن أبوشويرب كان محسوباً على الشلحي وزميل دفعته بالكلية الحربية المصرية. كما خدع هذا الإعلان أيضا القيادة المصرية بأن العقيد الشلحي هو قائد الإنقلاب. والجدير بالذكر أن بعض الضباط القوميين قاموا فى صيف 1966 بتنبيه القيادة المصرية إلى احتمال إقدام أمريكا أو بريطانيا على تغيير النظام الملكي في ليبيا لصالحهما. وعندما تطرق الحديث إلى العقيد عبدالعزيز الشلحي كان رد حمزة البسيوني (الشهير) أحد مساعدى صلاح نصر مدير المخابرات المصرية: "إنه متعاون معنا".

عدم الإعلان عن أسماء ورتب الإنقلابيين إلا بعد مرور اسبوع من الإنقلاب حيث أعلن عن ترقية الملازم أول معمر القذافي إلى رتبة عقيد وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة يوم 8 سبتمبر 1969.


طبع مئات الصور للرئيس جمال عبدالناصر بمطابع مطار الملاحة سنة 1967 وتوزيعها على الجماهير في الأيام الأولى من الإنقلاب لإيهام الليبيين والعالم أن إنقلاب سبتمبر هو إمتداد لثورة 23 يوليو.

قامت المخابرات الأمريكية بطبع وتوزيع كتيبات تبين مساوئ الحكم الشيوعي. وقد عثر على أعداد منها ملقاة على الرصيف بالقرب من السفارة السوفيتية بمدينة الحدائق بطرابلس.



ربما يود القذافي أن تمحى الحادثة التالية من ذاكرة التاريخ. ففي يوم السبت 18 أكتوبر 1969 توجه معمر القذافي بعد أن صار عقيداً على رأس مجموعة من عربات نصف نقل نحو قاعدة الملاحة حيث كانت تتمركز وحدة للقوات الجوية الليبية. وبدون أخذ موافقة مسئولي القاعدة اندفع رتل السيارات إلى داخل المطار. وما هي إلا لحظات حتى كان العقيد دانيل جيمس قائد مطار الملاحة واقفاً عند البوابة الرئيسية وشاهد القذافي بالقرب من حاجز البوابة سانداً يده على عقب مسدسه فحملق فيه وأمره أن يبعد يده عن مسدسه، ولدهشة جميع الحاضرين أذعن القذافي.

تقديم كل من مصطفى بن حليم ويحى عمر سعيد للمحاكمة غيابياً في ليبيا. وقد حكمت محكمة الشعب برئاسة الرائد بشير هوادي في 30 سبتمبر 1971 على مصطفى بن حليم بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً بتهمة إفساد الحياة السياسية. أما يحى عمر فقد أصدرت إحدى المحاكم الخاصة حكماً بالإعدام عليه سنة 1981.


قامت وسائل الإعلام الأمريكية، وبإيحاء من المخابرات الأمريكية، بإظهار القذافي "المجهول النكرة" أمام الرأي العام العالمي والعربي بأنه ربح الجولة وأخرجهم من قواعدهم في ليبيا لإضفاء نوع من الهيبة والهيلمان ("البرستيج") عليه حتى يسيطر ويقنع الجميع أنه وطني قومي وليس عميلاً لأمريكا وبطلاً مزيفاً. إلا أن القذافي لديه إحساس عميق بأن كثيراً من أفراد الشعب الليبي والعربي يعتقدون ويرددون أنه صنيعة أمريكية. ولذلك فقد صار ديدنه الدائم تبرئه نفسه من هذه التهمة وكان آخرها يوم الأربعاء 2 مارس 2005 حينما قال: "لسنا أعداء ولا عملاء ولا حلفاء لأمريكا".

موقف أمريكا ـ الراعية للحريات ونصير الديمقراطية الأول في العالم ـ من المعارضة الليبية وتمويلها لعدة أطراف ومشاريع نضالية "فاشلة"، كان أهمها وأخطرها برامج الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا خلال الثمانيات. وقد استغلت أمريكا الجبهة لجمع معلومات عن المعارضة الليبية وللتعرف عن كثب عن الأوضاع داخل ليبيا والإتصال بعناصر عسكرية ومدنية مؤهلة لتقديم حكم بديل لنظام القذافي.

إنكار الإدارة الأمريكية أن لها يداً في إنقلاب سبتمبر 1969 وتنكرها للنظام الليبي بعد أن ثبت تورطه في الإرهاب العالمي وإزهاق أرواح مدنيين أمريكان، كما حصل في لوكربي وملهى لابيل الألماني، وتهديدها ـ من حين إلى آخر بالتخلي عنه كلما شعرت بأنه يحيد عن خدمة المصالح والإستراتيجيات الأمريكية في المنطقة. ويبدو الآن أن العقيد ونظامه قد ارتمى بالكامل في الحضن الأمريكي وأصبح رهينة في يد أمريكا تصنع به ما تشاء.

الخلاصة

"فخامة الرئيس.. كلامك مردود عليه.. المملكة العربية السعودية.. واثقة.. المملكة العربية السعودية.. مسلمة، المملكة العربية السعودية ليست عبدة للاستعمار مثلك ومثل غيرك.. من جابك للحكم أنت؟ من جابك للحكم قللي الصحيح.. من جابك للحكم؟ لكن لا تتكلم ولا تتورط بأشياء مالك فيها لا حق ولا نصيب.. الكذب هو أمامك.. والقبر هو قدامك."




الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية آنذاك موجهاً كلامه للقذافي خلال الجلسة العلنية لمؤتمر القمة العربي الذى عقد بمدينة شرم الشيخ في غرة مارس 2003.

كان إنقلاب معمر القذافي وشلته من الضباط المغمورين، أمريكياً بكل المعطيات. وما كان له أن ينجح لولا تواطؤ حكومة ويلسون العمالية في بريطانيا، وتعاون عدد من ضعاف النفوس من الليبيين والعرب. فقد سرقوا ساعة الصفر عندما كانت البلاد مهيأة لتسلم العقيد الركن عبدالعزيز إبراهيم الشلحي السلطة يوم الجمعة 5 سبتمبر 1969. وبالتالى نجحت أمريكا في إفشال مخطط الشلحي وطرد الإنجليز واستلام ليبيا.


هناك بعض المؤشرات التى ربما تؤكد الحضور الماسوني في تنفيذ إنقلاب سبتمبر 1969 ولعل أهمها كون قائد مطار الملاحة العقيد دانيل جيمس والذى تولى الإشراف على تنفيذ خطة الإنقلاب كان عضواً في محفل برنس هول الأعظم الماسوني (Prince Hall Grand Lodge). بعد نجاح مهمته في ليبيا عين العقيد جيمس نائباً لمساعد وزير الدفاع لشئون العلاقات العامة ثم ترقي في السلم العسكري حتى صار مساعداً خاصاً لرئيس أركان القوات الجوية الأمريكية. وفي سنة 1983 أطلق اسم الجنرال جيمس على المحفل الماسوني رقم 72 بولاية واشنطن بأمريكا.


الماسونية منظمة سرية تدعو إلى الإلحاد والإباحية والفساد وإسقاط الحكومات الشرعية الوطنية والسيطرة عليها. وبعد دراستنا لأفكار وتصريحات وتصرفات المهدوي والقذافي وبعد صدور كتاب المهدوي البيان بالقرآن سنة 1990 تبين لنا إنه ليس مستبعداً أن يكون المهدوي والقذافي من أتباع الماسونية. وإذا صحت هذة الفرضية فإن سيناريو إنقلاب حسني الزعيم في سوريا سنة 1949 قد تكرر في ليبيا سنة 1969. فقد ظهرت حديثاً معلومات دقيقة تؤكد أن حسنى الزعيم كان صنيعة ماسونية وأنه كان على اتصال بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي. ولا بد أن نؤكد أن تحركات الماسون في العالم العربي تتسم بالسرية التامة بعكس أقرانهم في الغرب الذين لا يمانعون من البوح بإنتمائهم لهذه الجمعية والكثير منهم يرتدى خاتماً يحتوى على شعار الجمعية ويتصافحون بطريقة مميزة.

أثناء إدلائه بشهادته أمام محكمة قضية لوكربي باسكتلندا في سبتمبر 2000 صرح عبدالمجيد جعاكة ـ أحد شهود الإدعاء الرئيسيين ـ أن القذافي متورط في مؤامرة ماسونية عالمية، وحينما طلب بإلحاح منه محامي الدفاع الكشف عن مصدر هذه المعلومة رد جعاكة أنه علمها من شخص في ليبيا ولأسباب أمنية لا يمكنه البوح باسمه.

قصة السيد أحمد الزبير أحمد الشريف السنوسي: الإنسان الشريف المجنى عليه...


كانت الدفعة 33 (1954 ـ1957) منذ تاريخ إنشاء الكلية العسكرية العراقية والدفعة الثانية إلى العراق بالنسبة لليبيا مكونه من عشرين طالباً ـ 15 من برقة و 5 من طرابلس ـ وهم: من برقة فوزى وأخوه جلال الدغيلي، صالح وأخوه حسن السنوسي، جاد الله عبدالحفيظ، رمضان غريبيل، محمد الهلالى، أحمد فوزى هلال، محمد شحات فالح، عبدالحميد الماجرى، عبدالقادر خليفه، أحمد السبيع، أحمد الزبير السنوسي، حليم البورى ومحمد سعد جبريل. أما جماعة طرابلس فكانوا: محرم نديم بن موسى، طارق خيرى السراج، الطاهر الناجح وسليمان الفقيه حسن ومن زوارة جمعه ميلود شعبان.


وقد استقال حليم البوري لصعوبه التدريب الذى لم يتحمله واستمر 19 طالباً بالكلية حتى تخرجهم. ولكن أثناء التخرج رفضت ليبيا منح أحمد الزبير السنوسي رتبته العسكرية وفصل من الجيش لأن الملك إدريس لم يكن وقت التخرج راضياً عن عائلته السنوسية بسبب قتل السيد محمد الشريف محي الدين السنوسي للسيد إبراهيم الشلحي خادمه وناظر خاصته آنذاك في خامس من أكتوبر 1954 بمدينة بنغازى.

المهم أن العراق اعترفت بتخرجه ومنحته الرتبة. ولما كان الملك فيصل متعاطفاً مع الملك إدريس لم يرض باستخدامه بالجيش، أي لم يرض أن يلتحق كضابط بالجيش العراقي، ومنحته الكلية بعض المال من مدخراتها الخيرية وسافر الى سوريا سنة 1957 بعد ما أتم التدريب فى صنف المخابرة (الإشارة) واكتسب خبرة تمكنه من العمل. وكانت سوريا برئاسة شكري القوتلي فى أوائل 1958 على وشك الإنفتاح على مصر حيث تبنت قضايا عربية كثيرة.


وعلمت سوريا بأن أحمد الزبير السنوسي هو أمير من العائلة السنوسية وحفيد المجاهد أحمد الشريف السنوسي، وأنه مطارد لا يجد عملا فأوجدت قيادة الجيش له عملا بصفة مدنية كفنى أجهزة لاسلكية، وألحق بالخدمة فى فرع بالجيش قرب ضاحيه المزة. ووجد أحمد الزبير حجرة على سطح إحدى المساكن فسكن فيها واستمر يعيش حياته فى تلك الحجرة وفي عمله كفني مخابرة بمرتب قدره 150 ليرة في الشهر. وكان يعيش على الكفاف. وأثناء عودة طلبة الكلية الليبيين من الإجازة كان البعض يسافر عبر لبنان وسوريا بالباخرة متوجهين إلى بغداد، وكان بعض الضباط والطلبة الموسرين يزورونه ويتركون له بعض المال دون أن يشعر بهم، كمساعدة له.

استمر أحمد الزبير في معيشته حتى قامت ثورة العراق في 14 يوليو 1958. وكان آمر سريته عبداللطيف الدراجي قد صار وزيراً للداخلية في حكومة عبدالسلام عارف بعد مقتل عبدالكريم قاسم سنة 1963، فاستدعاه بعد ما أرسل أحمد الزبير رسالة له يخبره بأنه يريد العودة للعراق والإنضمام للجيش. وهكذا رجع إلى بغداد ومنح رتبة نقيب كزملائه في ذلك الوقت، ومنحوه شقة للسكن واحتضنوه وشعر بالآمان وصار يترقى ويعمل في مجاله في سلاح المخابرة حتى وصل إلى رتبة مقدم.


رجع أحمد الزبير إلى ليبيا وترك ما كان فيه، وكان في بغداد محل اهتمام وعناية، ولكن هكذا هى المقادير، وهكذا كان حظه السئ. ولم تمض شهور قليله من رجوعه إلى وطنه حتى اتهم هو وأخوه راشد بالمشاركة في محاولة إنقلابية، عرفت بمحاولة "الأبيار" (27 مايو 1970) وكان من بين المتهمين في المحاولة ثلاثة ضباط من خريجي العراق بل اثنان كانا من نفس دفعة السيد أحمد هما عبدالقادر خليفه وعبدالحميد الماجرى الذى مات نتيجة التعذيب والثالث كان محمد على أحمد الضراط. في 17 مايو 1972 حكمت محكمة عسكرية خاصة برئاسة المقدم على الفيتورى بإعدام السيد أحمد وبالسجن المؤبد وأحكام آخرى بحق بقية المتهمين.

أطلق سراح السيد راشد في 2 مارس 1988 أما شقيقه السيد أحمد فلم يفرج عنه إلا في 27 أغسطس 2001، أي أنه بقي في السجن واحداً وثلاثين عاماً صابراً محتسباً. وأصبح بذلك أقدم سجين فى العالم ـ حسب تقديرات منظمة العفو الدولية أمنستي ـ وهى مدة أطول من تلك التى قضاها نلسون مانديلا في سجون التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. وهكذا كان أحمد الزبير السنوسي، ذلك الفتى الورع الطيب الكريم، ضحية لضغينة الحكام في العهد الملكي... وضحية للعساكر في جماهيرية القذافي الهمجية.

______________________

الهوامش:

1. أخبار ليبيا: "عودة إلى القرصنة وطمس التاريخ" ـ 14 يونيو 2005.

2. نص كلمة القذافي يوم 11 يونيو 2005:

بسم الله.. بمناسبة مرور 35 عاماً على جلاء أكبر القواعد العسكرية لأكبر دولة.. نذكر أنفسنا والعالم أن أمريكا لم تدخل ليبيا بالقوة والحرب وإلا لاستشهد الشعب الليبي كله للحيلولة دون احتلال أرضه الغالية، وإنما دخلتها بطريقة باردة بواسطة حكومة مكونة من ملك عميل وعملاء مرتشين من شداد الآفاق.. من مرتزقة.. من عائلات دخيلة ليست عربية ليبية باعت الوطن بالمال لأنه ليس وطنها. فالخزي والعار على أولئك العملاء وعلى تلك العائلات الدخيلة الحقيرة.

ولما تولى زمام الأمر أبناء ليبيا الأحرار يوم الفاتح العظيم أمروا تلك القوات الأجنبية بالرحيل فرحلت في مثل هذا اليوم.. لأن الشعب الليبي العظيم بقيادة الفاتح العظيم أعلن الجلاء وتوجه إلى معسكرات التدريب العسكري استعداداً لخوض معركة التحرير إذا لم تنسحب تلك القوات المحتلة.. ولقد صممنا على القتال والتحرير وبدأنا الاستعداد للمواجهة فانسحبت القواعد العسكرية دون قتال.

ولكي لا يعود الاستعمار إلى أرضنا مرة أخرى فلا مفر من جعل الشعب المسلح حقيقة واقعة وليتأكد منها العدو نفسه.. فالشعب المسلح غير قابل للهزيمة، وعلينا أن نصمم على جعل الأرض الليبية تلتهب تحت أقدام أي عدو حتى تحترق تلك الأقدام مهما كانت قوتها، فلا حياة بلا كرامة.. ولا كرامة بلا حرية.. ولا حرية بلا قوة.. ولا قوة بلا شعب.. القوة في الشعب المسلح الذي لا يهزم.. فلنستعد رجالاً ونساء للدفاع عن أرض الوطن دائماً وأبداً بالحرص والمواظبة على التدريب العسكري العام والإنتظام في المناوبة الشعبية المسلحة.

فلتحيا الجبهة الداخلية الشعبية الصلبة القائمة على سلطة الشعب وأن نصمم على أن تبقى الأرض الليبية حرة طاهرة.. ولنستعد للاستشهاد في سبيلها إذا دعا الداعي وليكن شعارنا دائماً: الحرية أو الموت.. النصر أو الإستشهاد.

كل سنة وأنتم طيبون.. وكل سنة وأنتم منتصرون.

3. الدكتور آرمند جوليوس هامر يهودى أمريكي من أصل أوكراني. هاجر والده إلى أمريكا سنة 1890 حيث أنشأ الحزب الشيوعي الأمريكي سنة 1919. في سنة 1956 اشترى آرمند هامر شركة أكسيدنتال بمبلغ مائة وعشرين ألف دولار، ثم صارت بفضل امتيازات التنقيب عن النفط التي تحصل عليها نتيجة علاقة وثيقة عمر إبراهيم الشلحي. في سنة 1966 أعلن هامر اعتناقه المسيحية وانضمامه إلي الكنيسة الموحدة (Unitarian Church) بعدما اتهمه بعض الكتاب العرب بالعمالة لإسرائيل وجمعه أموالا للدولة العبرية!

4. لمعرفة المزيد عن سيرة الدكتور الساحلي يرجى الإطلاع على مقالة الدكتور فرج نجم: الدكتور على الساحلي: السياسي والأديب، موقع "ليبيا اليوم"، 13 فبراير 2005.

5. يشهد التاريخ للزعيم المجاهد الملك محمد إدريس المهدي السنوسي أنه كان تقياً متواضعاً زاهداً في الحكم، عف اليد واللسان، ولم نسمع أنه بطش بأحد أو أمر بالإنتقام من خصومه، متشبتاً بالأخلاق الإسلامية السمحة، واضعاً مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. تميز عهده المبارك (1951 ـ1969) بقدر لا بأس به من الديمقراطية والحريات العامة والعدل وتكافؤ الفرص وبقدر هائل من التسامح... هذا التسامح الأبوي هو الذي فتح شهية المغامرين والعملاء وطلاب السلطة واللصوص.

بعد تسلمه الحكم جاء للملك بعض زعماء القبائل طالبين القصاص من أعدائهم من بنى وطنهم فرد عليهم قائلاً: "عفا الله عما سلف". كما منع أفراد اسرته السنوسية من تقلد المناصب السياسية، فيما عدا الوظائف الدبلوماسية.

وفي صيف 1949 رفض تسليم ثلاثة من شباب جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكومة المصرية طرقوا باب قصره طالبين حمايته وكانوا قد أتهموا في جريمة قتل النقراشي باشا، وأصر على أن يجيرهم كما تملي عليه العادات الإسلامية والعربية الأصيلة.

لمزيد من المعلومات عن الملك إدريس والعائلة السنوسية الطيبة المباركة يمكن للقارئ الكريم الإطلاع على كتاب "الملك إدريس عاهل ليبيا: حياته وعصره"، تأليف ئي. ديكاندول، مانشستر 1989. ترجمة ونشر محمد عبده بن غلبون.

6. العقيد الركن رمضان بن صلاح من سكان مدينة غريان. تخرج من الكلية الحربية المصرية سنة 1954. إنسان مكافح صبور منظم ونشط. تدرج في السلك العسكري حتى صار قائداً للكلية العسكرية الملكية ببنغازى. كان قليل الأهتمام بالسياسة، اتخذ العسكرية مهنة وهواية. كان فخراً له ولليبيا أن يختار من قبل أربعة عشر ملكاً ورئيساً حضروا القمة العربية سنة 1964 ليكون المعاون الثاني للفريق على على عامر. كان في الجبهة الأردنية أثناء حرب 1967 وبعد انتهاء الحرب بعدة أشهر قدم استقالته من القيادة العربية الموحدة وعاد إلى ليبيا. ولكن جاء الأمريكان ومعهم ملازم حقود ليودع الضابط الكفؤ والوطني الصادق العقيد رمضان بن صلاح في السجن. وبسبب خوف النظام من الرجال من أمثال العقيد رمضان من ذوى السمعة الطيبة أبعد من ليبيا كسفير لبلاده في تشيكوسلوفاكيا. بعد عمليات الزحف الغوغائية على السفارات الليبية في بداية الثمانينات رجع العقيد رمضان إلى ليبيا ليشتغل في الأعمال الحرة كتاجر رخام.

7. رفض الأمير الحسن الرضا السنوسي، هذا الإنسان التقي المتواضع، الدخول في مؤامرات ضد شعبه وأمته. كان يؤمن بأن مستقبل ليبيا يجب أن يكون في يد أبنائها وأنهم قادرون على النهوض بهذه المسئولية. إلا أن الأمريكان تضايقوا من توجهات الأمير الوطنية واتهموه بالجهل فى أمور السياسة: "لأنه يعتقد أن في مقدور ليبيا أن تدير امورها بنفسها دون مساعدة من أمريكا وبريطانيا" (تقرير مرسل من السفارة الأمريكية بطرابلس إلى وزارة الخارجية بواشنطن بتاريخ11 اكتوبر 1968 ـ بن حليم: ليبيا انبعاث أمة.. وسقوط دولة ص532).

كما لم يفتهم أن ينتقدوا صهر الأمير الأستاذ الفاضل الطاهر إبراهيم مصطفى باكير ـ رحمه الله ـ سليل بيت العلم والشرف، وبالتأكيد لم ينسوا تصريحات باكير المدوية أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي بالقاهرة سنة 1964، وكان حينها سفيراً بالقاهرة، عندما صرح للصحفيين: "بأن ليبيا ليست فى حاجه للمساعدات الأمريكية والبريطانية، وأنه في مقدور مجموعة من التجار الوطنيين توفير ما تدفعه هاتان الدولتان مقابل تأجيرهما للقواعد العسكرية".

لقد أكرم الله الحسن الرضا بأن عاش آخر أيامه في حرية وأمان بين أحضان اسرته الكريمة بلندن وأن يدفن بعد وفاته سنة 1992 في المدينة المنورة بالقرب من حضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته رضوان الله عليهم وبجانب عمه الملك المغفور له محمد إدريس السنوسي.

8. أنشئت مدرسة الزاوية العسكرية سنة 1953 لتخريج دفعات سريعة من الضباط. كان آمر المدرسة العقيد إدريس عبدالله يعاونه ضباط أمريكان وعراقيين. للإنخراط فيها كانت المدرسة لا تشترط حصول الطالب على الشهادة الثانوية، وقد تخرج من المدرسة من كان عمرهم سبعة عشر عاماً. كانت مدة الدراسة ستة أشهر يتحصل بعدها الخريج على رتبة ملازم ثان. التحق بالمدرسة حوالى أربعون شاباً من مختلف مناطق ليبيا، تخرج منهم قرابة خمسة وثلاثون والبقية تركت الدراسة. أقفلت المدرسة بعد سنتين من إنشائها.

خريجو مدرسة الزاوية:

عزيز شنيب (نائب مدير التدريب فيما بعد)، طارق الباروني (صار وزيراً)، أحمد المدفعي، يونس العمراني، محمد بن يونس المسماري، مختار إبراهيم البنغازى، شعبان عمارة، عثمان عباس القاضي، يوسف القزلة، عبدالله المنصوري، سليمان عمر خليفه، على المريمي، خليفه المحمودي، أحمد حراقه، أحمد العقوري، عبدالحميد بالاعمي، عبدالله حلوم، عبدالله الحمروش، حسين الشريف، حسين بادى، مختار الغناي، سالم جعفر، عبدالونيس العبار، مفتاح العبار، مفتاح الفيتوري وبشير اليفرني.

وانضم كل من بهجت الترجمان وطارق عبدالباقي ويحي عمر سعيد فيما بعد لجهاز الشرطة.

ويلاحظ ورود اسمى العقيد يونس العمراني والعقيد مختار إبراهيم البنغازي في البرقية المرسلة من وزير خارجية أمريكا إلي السفارة الأمريكية بطرابلس في 18 أبريل 1968 (أنظر أعلاه تحت عنوان الإختراق). ويلاحظ كذلك أن العقيد مختار البنغازي كان من الضباط القلائل الذين دعاهم التلفزيون الليبي للحديث في برنامج "شهادات للتاريخ" أواخر التسعينيات. وكان المتحدثون يسردون عادة الوقائع والروايات التى يكون بطلها القذافي وفي بعض الأحيان زملاءه من الضباط الأحرار المتورطين معه.

أما باقى الخريجين وكانوا ستة ضباط: فرحات العماري (مدير إدارة بالجيش) وسالم الفرجاني (صنف مشاة)، وعبدالوهاب العاشق (آمر الشرطة العسكرية بالمرج)، وعابد جاد الله، وعلي الأطيوش (شقيق اللواء السنوسي الأطيوش)، وخليل العبار (ياور اللواء الأطيوش) وكان معهم ضابط النقليات السنوسي شلوف أحد جنود جيش التحرير السنوسي، فقد اتهموا جميعاً بالمشاركة في محاولة إنقلابية في مايو 1962 والتى كانت ستنطلق من مدينة المرج. وكانت هذة المحاولة فيما يبدو رداً على تنحية اللواء السنوسي الأطيوش ( أحد ضباط جيش التحرير السنوسي) من منصب رئيس الأركان أواخر 1961 وتعيين بدلاً منه اللواء نورى الصديق بن إسماعيل.

وقد تصدى للإنقلابيين ضباط أوفياء من أمثال عمر شنشن والطاهر الناجح وفوزى الدغيلي ورمضان غريبيل وآخرون أغلبهم من دفعات العراق وأفشلوا الإنقلاب وقبض على الإنقلابيين وسجنوا ولكن الملك إدريس وقبل قضائهم سنتين في السجن كلف عبدالحميد البكوش وزير العدل آنذاك بإصدار مرسوم بالعفو عنهم. وقد أنعم الملك على الضباط الأربعة الذين أفشلوا الإنقلاب بوسام الإستقلال تكريماً لهم. عين اللواء السنوسي الأطيوش والذى لم يكن له أي دور في المحاولة الإنقلابية فيما بعد وزيراً للمواصلات في إحدى وزارات العهد الملكي.

9. كان اللواء نورى الصديق أحد ضباط جيش التحرير السنوسي الذى ساهم مع الحلفاء في هزيمة القوات الإيطالية والألمانية في ليبيا. تولى رئاسة أركان الجيش في الفترة من 1962 إلى 1968 والتى تعتبر من أفضل فترات الجيش الليبي. كان قائداً مخلصاً متسامحاً متواضعاً ومحباً لمرؤسية، ومع ذلك فقد كان حازماً في الأمور التى تتطلب الحزم.

ويحضرنى قوله: "والله إنه أرجل من خمسين ضابط، لو كان في بلد تانى لقدروه وكرموه" وكان يقصد بهذا المديح الضابط طيار صلاح الهنشيري. وتتلخص قصة هذا الضابط كما يلي:

صلاح عارف الهنشيرى من أقدم الطيارين الليبيين وأبرعهم. خريج مصر سنة 1954. كان طياراً جرئياً وشجاعاً ولربما لحد التهور، كاد مرة أن يفقد حياته عندما ارتطمت طائرته بصارى مركب صيد. كان إنساناً مرحاً بشوشاً ومحبوباً من الجميع. رغم أقدميته بقى مدرباً للطيران وكان هذا لا يزعجه بل كان يقول: "حريتى أفضل من تحمل مسئولية الطيران".

في آواخر ديسمبر 1966 ـ وبدون استئذان من أحد ـ توجه الطيار صلاح بطائرته ذات المحرك الواحد (كانت مصر قد أهدتها لليبيا) إلي لندن ليحضر حفل رأس السنة فى ميدان الطرف الأغر Trafalgar Square! دخل الأجواء البريطانية بدون تصريح أو جواز سفر وفي جو غيم. سمح له بالهبوط في مطار صغير وقال لبرج المراقبة: "أنا جاى أحضر الكريسماس عندكم". فأقتيد إلى مركز للشرطة وتأكدوا من هويته وأبلغوا السلطات الليبية التى اعتذرت. سمح لصلاح بالبقاء ليلة واحدة وتمكن من حضور حفل رأس السنة عند الطرف الأغر برفقه ضابط شرطة إنجليزي. عند رجوعه إلى ليبيا في اليوم التالي قبض عليه في مطار طرابلس وعوقب بعشرة أيام اعتقال ثكنة وتأخير ترقيته من مقدم إلى عقيد. ومع ذلك فقد أثنى اللواء نورى الصديق على شجاعة وجرأة عاشق الحرية الطيار صلاح الهنشيري.

10. قام العقيد الشلحي برحلة عقب حرب يونيو 1967 مباشرة على متن طائرة عسكرية إلى كل من مصر وسوريا والأردن. رافقه في هذه الرحلة كل من د. أحمد البشتي وزير الخارجية والطيار سليمان العمراني. أخذ العقيد الشلحي معه أربعة شيكات بقيمة 55 مليون جنيه ليبي أي ما يعادل في ذلك الوقت 160 مليون دولار. سلم 25 مليونا لمصر باسم القوات المسلحة و15 مليونا لسوريا باسم حزب البعث و10 مليون للاردن باسم الديوان الملكي وذلك حسب طلب رؤساء هذه الدول و5 مليون سلمت لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري باسم منظمة التحرير الفلسطينية وكان تعليق العقيد الشلحي: "تمنيت لو أن كل الشيكات ذهبت إلى عبدالناصر".

11. إضافة إلى الدور الرئيسي الذي لعبه المستشار مصطفى المهدوي في الدفع بمجموعة الضباط الوحدويون الأحرار ودعمهم في القيام بحركة سبتمبر 1969، فقد أقدم عام 1990 على نشر كتاب سماه "البيان بالقرآن" تعرض فيه بالنقد للمبادئ والمعتقدات الأساسية الإسلامية، ناكراً حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان والتشريع. لقد أراد المهدوي أن يكون كتابه البيان بالقرآن بمثابة "الكتاب الأخضر" في الدين وليكون بديلاً عن المذاهب الإسلامية المعروفة. ولم ينف المهدوي علاقته بمجموعة الضباط الوحدويون الأحرار حيث جاء في أحد ردوده على ما كتبه الأخوين حسن وحسين عبدالحميد الزاوي في هذا الموقع (أخـبار ليـبـيا 11 فبراير 2006) ما يلي:

"... وأما عن علاقتي بالضباط الوحدويين الأحرار فإن قلت لا علاقة لي بهم فإنني أتبرأ منهم وإن كانت لي علاقة بهم فكأنني لا أحب أن ادعي شيئا لا دليل عليه عندي وأنا لا أقول كل ما يقول القائد وهو لا يقول كل ما أقول ولكننا ننهل من مدرسة واحدة هي مدرسة القران فيه تبيان كل شئ وما من رجلين في مدرسة واحدة الا تشابهت قلوبهما."

فلا يخفى وجود توافق ليس في الدفاع عن القرآن ولكن في هدم السنة المحمدية وإبطالها واستبدال شريعة الله بشريعة الأهواء. ولولا فضل الله وغيرة الليبيين على دينهم لكانت فتنة ولحلت بشعبنا كارثة لا يحمد عقباها ولكن الله سلم. وما كان رفع شعار "القرآن شريعة المجتمع" إلا للتضليل والتشويش وإفساد عقيدة الناس. لقد أكد المهدوي في كتابه ما كان كثيرون يرددونه حول موقف العقيد القذافي من السنة النبوية. وقد صرح المهدوي لأحد محاوريه: "أنه يصلى صلاة القرآن مع أقرانه بمصر، وإذا صلى خلف واحد من غير القرآنيين صلاة العصر أو المغرب مثلاً، فإنه ينوي صلاة ركعتين للفرض، ومازاد يكون قربى إلى الله!"

ومن أمثلة ما يؤمن به المهدوي وتلاميذه ويحاول ترويجه ونشره بين شعبنا الليبي وأمتنا الإسلامية والذى تم توثيقه فيما بعد في كتاب البيان بالقرآن ما يلي:

· أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ولا يحتاج إلى بيان سواء من ‏السنة القولية أوالعملية أو غيرها من آراء العلماء والمفسرين.
· إن الصلاة ركعتان فقط وإن الصلاة لا تقصر في السفر، بل في الخوف فقط، وإذا ‏قصرت تكون ركعة واحدة، ولا يشترط قراءة الفاتحة في الصلاة.
· إن الاحتلام لا يوجب الغسل، وخروج الريح والضراط لا ينقض الوضوء.
· المرأة يجب ‏عليها أن تصلي وأن تصوم وهي حائض، والمريض لا يجوز له التيمم.
· أنه يجب على المسلم أن يصوم إلى الليل ولا يحل له ‏الإفطار عند الغروب.
· لا يوجد مقدار معين للزكاة أو بيان الأموال التي تجب فيها ولا ‏ميقات للزكاة إلا في بعض الحالات مثل زكاة الزروع إنها تؤتى يوم الحصاد.
· إن الحج يجوز في المحرّم وشوال، ولا يشترط أن يقف الحاج بعرفة يوم التاسع من ذي ‏الحجة، وأن رمي الجمار بمنى يعتبر نصباً ما أنزل الله به من سلطان.
· الختان ليس من سنة الإسلام.
· شحم الخنزير حلال.

من معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه أخبرعن أشياء ستقع ووقعت، ونبهنا عن أشخاص من أهل البدع والأهواء ومنكرى سنته سيأتون من بعده. فعن المقدام بن معد يكرب ـ رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله."

وعن أبي رافع ـ رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه."

ينكر المهدوي بأن له أي علاقة بكلية فكتوريا، التى مقرها مدينة الإسكندرية بمصر، سوى أنه درس فيها لعدة أشهر وهو طفل. ولكن نلاحظ أن من بين أصدقائه المقربين خريجين من تلك الكلية معروفين في المجتمع الليبي بأفكارهم الغريبة وتصرفاتهم الحمقاء وقد تقلد بعضهم مناصب عليا في الدولة. وفي فترة من الفترات صار أحدهم (يشاع أنه ماسونياً) مستشاراً للرائد عبدالسلام إجلود أحد رموز القمع والإرهاب والفساد في ليبيا قبل أن يلجمه الله ويكفي الليبيين شره ويسلطه الله على من ظلموا وآذوا إخوانهم الليبيين من أمثال المهندس عزالدين الهنشيري (مستشار الأمن القومي) "وكذلك نولّى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون".

ولقد استنكر الليبيون ما كان يصرح به القذافي في أمور الدين وتهجمه السافر على السنة النبوية المطهرة وعلى أئمة وعلماء المسلمين وتزييفه للتاريخ الليبي والإسلامي. وقد قام كل من الشيخ الشهيد محمد عبدالسلام البشتي وفضيلة المفتي الشيخ الطاهر أحمد الزاوي بالتصدى بحزم على إفتراءات القذافي. كان الشيخ الزاوي في بعض الأحيان يصلى صلاة الجمعة بمسجد القصر الملحق بقصر الخلد بطرابلس خلف الإمام محمد البشتي، وكان من رواد المسجد الشهيدين رشيد كعبار ولطفى امقيق. وكان من رواد المسجد أيضا العقيد عبدالعزيز الشلحي ولربما يكون شاهداً على الحادثة التالية.

بعد الصلاة كان الشيخ الزاوي يقف ويتحدث عن بعض الأمور التى كانت تشغل بال الليبيين منتقداً في بعض الأحيان قرارات القذافي الجائرة مثل قانون اغتصاب الأملاك الذى عرف بقانون رقم 4 الصادر سنة 1978. وفي إحدى جمع سنة 1979 وقبل صعود الخطيب المنبر نهض الشيخ الزاوي وقال بصوته الجهوري: "أريد أن أقول لكم كلمة... إن القذافي... كافر كافر كافر!" ثم جلس. بعد هذا التصريح الخطير تعرض الشيخ وتعرضت دار الإفتاء لحملة عدائية شرسة من قبل القذافي ولجانه الثورية ولكن الشيخ المجاهد رغم كبر سنة فهو من مواليد عام 1890 صمد ولم يرضخ وظل يجاهر بقولة الحق بكل جرأة وشجاعة. ولكن لما سدت في وجهه كل طرق للتعبير عن رأيه اضطر لتقديم استقالته من دار الإفتاء آواخر سنة 1984 واعتكف في بيته بشارع الجمهورية إلى أن انتقل إلى رحمه الله تعالى في 6 مارس 1986.

12. تأسست الكلية العسكرية الملكية سنة 1957 وكان مقرها قصر الغدير ببنغازي. بدأ بالتدريس فيها ضباط عراقيون ثم خريجوا الدفعات الأخرى وكانت مدة الدراسة بها سنتان. وكانت تخرج سنوياً ما بين 35 إلى 50 ضابطاً حتى قيام إنقلاب 1969. معمر القذافي خريج الدفعة السابعة (1963 ـ 1965).

نبذة عن نشأة الجيش الليبي

يعتبر تاريخ 9 أغسطس 1940 هو بداية تأسيس الجيش الليبي. فقد احتاج الجيش الثامن البريطاني الذى كان يحارب المحور المكون من الإيطاليين والألمان، احتاج إلى عناصر شبه عسكرية تنضم مع أرتاله المحاربة وتكون كخطوط خلفيه يستعين بها الجيش المحارب، مع الإتصال بالمدنيين أو نقل الأرزاق أو تأمين قواعد الإمداد والتموين بجانب اختيار بعض العناصر التى لها كفاءة لتدريبها ولتكون من ضمن جنود الحلفاء الذين قد انضموا لى الجيش الثامن وليساهموا في تحرير وطنهم من الاحتلال الإيطالي.

اتفقت القيادة البريطانية وممثلها العقيد براملي مع الأمير محمد إدريس السنوسي على الإستعانه بعناصر من المهاجرين الليبيين المقيمين على الأراضي المصرية وفيما بعد بالأسرى الموجودين بالتل الكبير والذين أسرهم الجيش البريطاني في نهاية 1940 في سيدى برانى لتكون نواة لجيش ليبي وسمي الجيش المرابط أو الجيش السنوسي. وفتح معسكر للتدريب بمنطقة الهرم عند الكيلو 9 بهضبة الهرم على الطريق الرئيسي الصحراوى القاهرة الإسكندرية. وما زال النصب التذكارى لتأسيس هذا الجيش مقام حتى الآن.

من ضمن الرجال الذين قاموا بتدريب أو المعاونة في تشكيل هذا الجيش: حسين الفقية، أحمد الشتيوي السويحلي، على أبوهادى، عبدالحميد العبار، السنوسي الأطيوش، عمر فائق شنيب، نورى الصديق بن إسماعيل، السنوسي شمس الدين، إدريس العيساوي، محمود بوقويطين، عبدالله الجاظره، حمد بوخيرالله، إدريس عبدالله، جبريل صالح، سليم عبدربه، سعد شماطه، فرج صالحين، صالح مطير، محمد عبدالمولي، صالح الأطيوش، عبدالجليل سيف النصر، إبراهيم أحمد الشريف السنوسي ومفتاح بوشاح، وكان لجميعم وغيرهم من المجاهدين شرف المساهمة فيما بعد في تأسيس دولة الدستور والقانون.

بدأ الجيش بالتدريب ثم انضم مع الحلفاء في معارك حلفا والعلمين ثم في الإندفاع وراء فلول الإيطاليين والألمان المنسحبه حتى دخلوا برقة واستمر في اندفاعه حتى حررت طرابلس في يناير 1943. وتكون من هؤلاء الجنود والضباط نواة لقوة دفاع برقة والقوة المتحركة المركزية بطرابلس ونواة الجيش الليبي الجديد. في سنة 1951 أرسلت مجموعة من ضباط الجيش السنوسي إلى بريطانيا لدورة إنعاش ولاكتساب اللغة. وعندما نالت ليبيا استقلالها في 24 ديسمبر 1951 بدأت الحكومة الليبية في تأسيس الجيش وإرسال البعثات العسكرية للخارج وأنشأت مدرسة عسكرية سنة 1953 في مدينة الزاوية لتخريج دفعات سريعة من الضباط لحين عودة المبعوثين من الخارج.

في البداية أسندت قيادة الجيش لضابط إنجليزي ثم في سنة 1954 اختارت الحكومة الليبية المملكة العراقية لتدريب الجيش حيث انتدب إليها أفضل العناصر وكان منهم اللواء شكرى نديم (1954 ـ1956) ثم اللواء عادل بك راغب (1956 ـ1958) ثم اللواء صبحى عبدالحميد (1958) وضباط آخرين منهم المقدم أحمد شهاب والمقدم نورى الصباغ. توقف انتداب الضباط العراقيين بعدما قامت ثورة العراق سنة 1958، وكانوا جميعاً ذو كفاءة ومقدره وخلفوا وراءهم جيشا مثاليا أطاح الإنقلاب بعناصره وأخرجهم وهم مازالوا في قمة عطائهم.

في بداية 1955 كان قد تكون جيشاً ليبياً ولكن صغير الحجم ولا يزيد عدد أفراده عن ألفي جندى وضابط. ثم افتتحت الكلية العسكرية الملكية ببنغازى سنة 1957. كان الإلتحاق بالجيش تطوعياً (5) سنوات وأقصاها (7) سنوات، وفي عام 1968 بدأت ليبيا تأخذ بنظام التجنيد الإجباري حسب سنوات الميلاد بداية من 18 سنة يتم فيها الإلتحاق إجبارياً لكل شاب ليخدم في الجيش من سنة إلى ثلاث سنوات. ورغم قلة الموارد أنشأت عدة مدارس للتعليم والإمداد الإسنادى (مخابرة، نقليات، مشاة، مدفعية، هندسة ميدان، هندسة آلية ودروع) ثم تشكل السلاح البحري في 1963 والجوي في 1964 ووحدة للدفاع الجوي في 1968. وهكذا استمر الجيش في عمله ـ والذى وصل عدده إلى حوالى 350 ضابطا ونحو عشرة الآف جندي ـ حتى 1 سبتمبر 1969 عندما داهمه الإنقلاب.

13. نستغرب لما قاله رئيس وزراء ليبيا الأسبق مصطفى بن حليم، وهو السياسي المحنك، في كتابه "ليبيا انبعاث أمة.. وسقوط دولة" (ألمانيا 2003) بأن المخابرات الغربية لم تكن على علم بحركة طغمة القذافي كما يسميها، مع أن كتابه ملئ بالأدلة التى تؤكد وجود اتصالات واسعة بين رجال السفارة الأمريكية وعملائهم بالمدنيين والعسكريين الليبيين (الملحق رقم 8 ص508 ـ513). ليس هذا فقط بل إن مخططي إنقلاب سبتمبر من الأمريكان أرادوا أيضاً "بسط نفوذ أمريكا على التعليم الإعدادى والثانوى!" (ص510 ـ512)

ونستغرب أيضاً لما قاله بن حليم بأنه اتصل بثمانية من كبار المسئولين الأمريكان والإنجليز الذين نفوا جميعا أن تكون لدولهم أية علاقة بإنقلاب سبتمبر 1969، مع علمه بأن من ثوابت الدول الكبرى عدم الإفصاح عن أي دور لها في تغيير الأنظمة. وما كان عليه إلا أن يسأل المستشار مصطفى المهدوي الذى يملك كل الأجوبة. إننا نجزم بأن تصريحات المسئولين الغربيين والأمريكان خاصة إنما هى جزء من الخديعة، فقد تعلم الأمريكان درساً مهماً بعد فشل إنقلابهم في سوريا بقيادة حسني الزعيم في 30 مارس 1949 والذى لم يدم سوى أربعة أشهر ونصفا عندما قام العميد سامي الحناوي بإنقلابه وأعدم حسني الزعيم ودفنه في المقبرة الفرنسية.

ومن الأمور المحيرة في ما كتبه مصطفى بن حليم دفاع السفيرين ديفيد نيوسم وجوزيف بالمر عن القذافي ونظامه أثناء اجتماعهما بالرئيس ريتشارد نيكسون (رئيس أمريكا من 1969 إلى 1974) في البيت الأبيض وبحضور ريتشارد هيلمز مدير وكالة الإستخبارات المركزية حين قالا وفي نفس واحدة: "يا سيادة الرئيس، ليبيا وقع فيها إنقلاب وأمامنا 30 سنة من التعاون والتفاهم مع النظام الليبي الجديد... " (المصدر السابق ص411)

فهل دبر السفيران إنقلاب سبتمبر دون علم الإدارة الأمريكية؟ هل أخفى الأمر عن وكالة الإستخبارات الأمريكية؟ إذن لصالح من كان مصطفى المهدوي يعمل وهو الذي كان يصرح دائماً بأنه يعمل للأمريكان وأن أمريكا تريد إحداث تغيير في ليبيا وأنها منذ أواخر 1966 ـ كما أشرنا بالتفصيل سالفاً ـ وجدت ضالتها في مجموعة الملازمين وإنها اتفقت معهم على جميع المسائل من بينها إجلاء قواعدها وإمداد الإنقلابيين بالسلاح؟

كما لم يخبرنا بن حليم في كتابيه (الكتاب الأخر هو "صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي" بريطانيا 1992) عن سبب سفره المفاجئ إلى بنغازى ـ حيث يقطن المهدوي والقذافي ـ يوم 22 أغسطس 1969 ومغادرته لها يوم 25 أغسطس مباشرة إلى بيروت ثم إلى زيورخ.

في الختام، فمما يؤخذ على مصطفى بن حليم عدم إبلاغ السلطات الليبية ـ وخاصة صديقه الوفي الملك إدريس ـ عما كان يدبره الأمريكان والمهدوي. وهناك العديد من المسئولين البارزين السابقين في الحكومة الليبية الذين يفسرون سكوته وغضه الطرف عما كان يحاك في السر بأنه نكاية في خصمه اللدود العقيد عبدالعزيز الشلحي ولإفشال مساعي الشلحي للسلطة.

14. يحى عمر سعيد من سكان مدينة جادو بالجبل الغربي، خريج مدرسة الزاوية العسكرية، نقل إلى الشرطة (البوليس الاتحادي) ثم عمل بإحدى شركات النفط. بعد خروجه من ليبيا عمل كمستشار للسلطان قابوس حاكم عُمان فى الفترة من 1970 الى 1981. عند إقامته في أمريكا كان يتردد على أصدقائه القدامي في وكالة الإستخبارات المركزية خاصة العقيد جيمس كرتشفيلد (مدير سابق لإدارة الشرق الأوسط بالسي آي إيه) والجنرال جوزيف كابوتشي. وكان أحد حراسه في فترة من الفترات عميلا سابقا فى الوكالة يدعى فيلكس رودريجز، أحد اللاعبين الرئيسيين في عملية "الكونترا" التى قادها العقيد أوليفر نورث في عهد الرئيس رونالد ريجان (رئيس أمريكا من 1981 إلى 1989)

ومن الملفت للنظر اهتمام يحي عمر بالمعارضة الليبية. فهل كان يعمل لحساب طرف آخر أم هى صحوة ضمير وتكفير عن خطايا في حق شعبه وبلده؟ فخلال الثمانينات كان على اتصال بشخصيات ليبية معارضة ـ وكانت هذه الإتصالات تمر عبر صديقه الذى أخرجه من ليبيا يوم الإنقلاب الرائد عبدالمنعم الهونى عضو مجلس قيادة الإنقلاب السابق ثم رئيس الهيئة الليبية للخلاص الوطني ثم أخيراً مندوب ليبيا الدائم لدى جامعة الدول العربية ـ وتوجت تلك الإتصالات بعقد اجتماع ضم 18 شخصية ليبية من مختلف فصائل المعارضة في مزرعة يحى عمر بالقاهرة في 25 نوفمبر 1986.

في يوليو 1987 وزعت قيادة الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا على أعضائها مذكرة من 45 صفحة جاء على صفحة 12 منها ما يلي:

· قيام عنصر من العناصر البارزة والهامة، وهي التي إستضافت "لقاء المزرعة" بإبلاغ مخابرات القذافي عن بعض تحركات الجبهة السرية (صيف 86) وذلك بمعرفة وبشهادة أحد العناصر البارزة الأخرى التي حضرت ذلك اللقاء.

· وجود علاقة لأحد أهم عناصر " لقاء المزرعة" والداعين إليه مع المخابرات الإسرائيلية، وسعيه لترتيب لقاء بينها وبين شخصيات ليبية.

بحسب ما ورد في الفقرتين السابقتين لا يمكن الجزم عمن هو جاسوس القذافي ومن كان على اتصال بالموساد وقد يكون هو نفس الشخص المعني في الفقرتين. المؤكد أن الذى استضاف اللقاء كان يحي عمر وخرجت دعوات اللقاء من القاهرة باسم عبدالمنعم الهوني.

توفي يحي عمر بسويسرا في 3 نوفمبر 2003 تاركاً وراءه ثروة قدرت سنة 1990 بنحو مليار دولار.

15. عندما قبض على المقدم موسى أحمد أوفد القذافي الضابط المهذب الرائد عبدالمنعم الهوني إلى المعتقل لمقابلة رئيس وأعضاء المحكمة العسكرية ليبحث عن قضايا قديمة لموسى أحمد مع أن هذه القضايا نظر فيها. فقد كانت النية مبيتة لتصفيته نهائياً. طلبوا ملف قضية بالذات كانت وقائعها حدثت في سبها سنة 1968 عندما كان موسى أحمد معاون آمر الكتيبة هناك وقد وقع نزاع بينه وبين آمر الكتيبة عبدالله حلوم (خريج مدرسة الزاوية) وضابط صغير اسمه الطمزيني.

ومن وقائع هذه القضية صرح الملازم الطمزيني أن موسى أحمد يستغل مركزه في أخذ اسمنت للشركة التى تبنى مطار سبها وهى شركة بلغارية وكان وكيلها الهادى حموده. وبعد بحث القضية من قبل المحكمة رفضت المحكمة قبول الدعوى لأنها كيدية وأن الأسمنت هو اسمنت فاسد ملقى بعد انتهاء الشركة من أعمالها أخذه موسى أحمد ليرمم به بعض الأماكن في الوحدة وبرئ موسى أحمد وعوقب الملازم الطمزيني. وخاب أمل القذافي فلم يجد ما يدين به موسى أحمد.

16. ومن الممارسات اللاإنسانية خلال عهد الإنقلاب أقدمت السلطات الليبية في السبعينيات بأمر القذافي على إزالة مسجد وضريح سيدى حموده بميدان الشهداء بطرابلس وتم هدمه ليلاً بالمتفجرات. وأتبعت ذلك بهدم ضريح شيخ الشهداء عمر المختار المقام في وسط مدينة بنغازي ونقل رفاته، رغم اعتراض ابنه محمد، ودفنها في مدينة سلوق النائية الصغيرة... ورأينا بعد ذلك كيف أصبح ضريح محمد أبومنيار القذافي والد معمر القذافي بمقبرة الهاني بطرابلس مزاراً ـ حسب المراسم الرسمية للدولة ـ للوفود الرسمية القادمة إلى ليبيا.

يوم 9 نوفمبر 1984 صدرت الأوامر بهدم ضريح الإمام المجدد السيد محمد بن على السنوسي (1787 ـ 1859) مؤسس الحركة السنوسية الإصلاحية المباركة وجدّ مؤسس دولة ليبيا الحديثة. كلف بذلك إبن عم القذافي الضابط حسن اشكال حيث قام بنبش قبر الإمام وقبر ابنه السيد محمد الشريف بزاوية الجغبوب. كما نبشت قبور حفيدي الإمام السيدين محمد الرضا ومحمد صفي الدين، وكذلك قبر صهر الإمام عمران بن بركة الفيتوري. وفي حجرة "أمهاتنا" الملحقة بضريح السيد الإمام نبش قبر اثنتين من زوجات الإمام وعشرة من أحفاده (أولاد السيدين محمد المهدي ومحمد الشريف أبني الإمام) الذين ماتوا وهم صغار السن. ودفنت جميع الرفات في مكان مجهول وأما جثتى الإمام وابنه السيد محمد الشريف فقد وضعتا في سيارة عسكرية ورميتا في الصحراء بالقرب من مدينة اجدابيا.

بعد أيام قليلة عثر أحد الرعاة على جثتي السيد الإمام وابنه السيد محمد الشريف وكانتا في حالة طبيعية أي لم تتحللا فظن أنها جريمة قتل فأبلغ الشرطة التى قامت بنقل الجثتين إلي مشرحة مدينة اجدابيا حيث تم التعرف عليهما. عندما بلغ الأمر الى معمر القذافي أرسل بوجه السرعة سيارة عسكرية لنقل الجثتين الطاهرتين باتجاه مدينة طرابلس. ويشاع أنهما دفنتا بمعسكر باب العزيزية. وفي نفس الوقت وفي المقبرة الملحقة بمقام سيدي رافع الأنصاري بالبيضاء نبشت قبور السادة السنوسية وهدم قبر السيد الصديق السنوسي وكذلك قبر إبراهيم الشلحي.

بعد سنة وأسبوعين من فعلته المشينة لقى حسن اشكال مصرعه على يد ابن عمه معمر القذافي داخل معسكر باب العزيزية "وكذلك نولّى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون".

ومن تلك الممارسات اللاإنسانية ما جرى للشيخ عبدالرحمن العدولي من مواليد طرابلس سنة 1943 من أسرة متوسطة الحال. فقد بصره وهو صغير السن. وجهه والده رحمه الله للتعليم الديني فاجتهد حتى التحق للدراسة بمعهد أحمد باشا الديني الكائن بمنطقة الظهرة بطرابلس. بعد تخرجه عين مدرساً لمادة الدين الإسلامي بالمدارس الحكومية. كان إنساناً تقياً، دمث الأخلاق، طيب المعشر. كان الشيخ عبدالرحمن ممن ألقي القبض عليهم في نوفمبر 1980 في الحملة التى طالت المترددين على مسجد القصر بطرابلس حيث كان الشيخ الشهيد محمد البشتي يلقى مواعضه ودروسه الدينية، وبدون توجيه أي تهمه له سجن الشيخ عبدالرحمن لمدة أربع سنوات. بعد خروجه من السجن أضطر للرجوع للعمل في مجال التدريس من أجل كسب قوت عياله.

في سنة 1989 أقتيد الشيخ الفاضل مرة آخرى إلى السجن وبقي فيه إحدى عشر سنة وبدون توجيه أي تهمه محدده له، بل أثناء التحقيق معه سمع أحد المحققين يقول لزميله: "هذا الراجل مفيش شئ عليه، ليش امخلينه هنا!" في سنة 2003 تقاعد الشيخ عبدالرحمن من التدريس.

أثناء أحداث سجن بوسليم الدامية في يونيو 1996 قتل الشيخ سعد قيطون وكان أيضاً كفيف البصر. وقد تجاهل الإعلام العربي والعالمي تجاهل الحديث عن مجزرة بوسليم الرهيبة التى راح ضحيتها أكثر من ألف سجين ليبي دفنوا في مقابر جماعية سرية.

17. من المفارقات العجيبة أن يسجن الشيخ الجليل والفارس الجسور عبدالحميد العبار رفيق شيخ الشهداء عمر المختار بعد إنقلاب سبتمبر 1969. وقد نقل عنه وهو في السجن أنه قال ـ ما معناه: "لو كان سيدى عمر (يقصد عمر المختار) حي لكان معانا في هالدويرة! (أي معنا في حجرة السجن).

18. بلغنا من مصدر ثقة مقرب من الشيخ عبدالحميدالعبار أن الملك إدريس كتب وصية يترك بموجبها الحكم للعقيد عبدالعزيز الشلحي، وقد حررت أربع نسخ من الوصية: واحدة إلى صديق الملك السياسي القدير محمود المنتصر، الذى إذا نجح الشلحي في السيطرة، سيكون رئيساً للوزراء.. ونسخة آخرى لرئيس مجلس النواب مفتاح عريقيب وثالثه لدى الشيخ عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ ورابعة لدى عمر الشلحي. ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن فقد تسربت المعلومات عن الوصية إلى المخططين الأمريكان الذين أمروا الإنقلابيين بضرورة الإسراع في القيام بإنقلابهم مستفدين من الجو المهيأ للعقيد الشلحي.

19. أرسلت الحكومة الليبية دفعتين من الطلبة للدراسة بالكلية الحربية المصرية. تخرجت الدفعة الأولى (دفعة السلاح التشيكي) سنة 1954 وتخرجت الدفعة الثانية سنة 1956 وكانت تضم اثنا عشر ضابطاً، والضباط الخريجون هم:محمد بن عامر، صالح الصبيحي، المبروك بن طاهر، أحمد بن فايد، حسين الفرجاني، عبدالعزيز الشلحي، الطاهر بوقعيقيص، مفتاح الباح، محمد تومية، سعد الدين أبوشويرب، نورى زريقان، محمود بن ناجي، عبدالله سويسي، حسونه عاشور، عون رحومه شقيفة، صالح العزابي، عبدالسلام الشكشوكي، رمضان بن صلاح، والطاهر شنشن الذى توفي بعد تخرجه بقليل في حادث سيارة.وكانت هناك دفعات فردية إلى مصر: صلاح الهنشيري (طيران)، محمد بن ناجي (الذى تعرض لحادثه بحرية) وأنور سالم (بحرية)، والأخير رفض الإنضمام للبحرية وتحول للعمل كمدني.

20. رغم أن القوانين السارية في ذلك الوقت تمنع زواج العسكريين من الأجنبيات إلا أن العقيد حسين الفرجاني تزوج من سيدة أمريكية التى أسلمت ونطقت بالشهادة في مكتب مفتي ليبيا سنة 1963. العقيد عبدالعزيز الشلحي هو أيضاً تزوج من سيدة إنجليزية كانت أرملة شقيقه المرحوم البوصيرى.

21. في سنة 1952 أرسلت أول دفعة عسكرية إلي العراق وكانت تضم خمسة طلاب، تخرج منهم أربعة، وكانوا أول صنوف تتخرج من الجيش، ثلاثة مشاة وواحد مدفعية، وهم: محي الدين المسعودى (مدفعية)، على شلابي، جمعة أبوحلقة، مصطفي القريتلي (مشاة). أما زميلهم محمد القوج فقد توفى غرقاً في نهر دجلة قبل تخرجه. ثم بدأت تتوالى الدفعات للعراق. فأرسلت أربعة بعثات متلاحقة في سنوات 54، 55، 56 و1957. كانت مدة الدراسة ثلاث سنوات، باستثناء الدفعة 36، يعقبها تدريب بعد التخرج. ذكرنا اعلاه أسماء منتسبي الدفعة 33 (1954ـ1957) والتى كانت أكبر الدفعات التى أرسلت للخارج وفيما يلي أسماء منتسبي بقية الدفعات:

الدفعة 34 (1955 ـ1958)
عمر شنشن، مختار ندير، محمد على أحمد الضراط، مصطفى أبوزعكوك ويوسف فلفل.

الدفعة 35 (1956 ـ1959)
نصرالدين هامان، إبراهيم راشد، عبدالهادى البكوش، يوسف التومى الشيباني، عبدالحفيظ الميار، سالم الشريف، على العوكلي، إسماعيل الصديق، الطاهر الشاوش ومكى أبوزيد.

الدفعة 36 (1957 ـ1959)
كان منتسبي هذه الدفعة أغلبهم يحملون الشهادة الإعدادية وكان من المفترض أن يتخرجوا نواب ضباط ثم بعد ثلاث سنوات يتحصلوا على رتبة ضابط، إلا أنهم بعد تخرجهم منحوا رتبة ضابط مما سبب تذمراً داخل الجيش. كما أنهم لم يتدربوا على السلاح بصورة فعليه ولكن للدفاع عن النفس وعلى شئون التموين والتخزين والمالية والإمداد أي ملحقات الجيش وقد كانت أخر الدفعات للعراق والخريجون هم:
الصادق ناصوف، على بحرون، نورى العرادى، مصطفى نورى، مختار الدعوكي، محمد الجهمي، صالح عبدالحفيظ، عبدالحميد مدورد، جمعه العروش ومفتاح دخيل.

بالإضافة لدفعات مصر والعراق، وقبل افتتاح الكلية العسكرية الملكية ببنغازى سنة 1957، أرسلت مجموعة من الطلبة للتدريب في تركيا وهم: أبوبكر الزقلعي (مدفعية)، فتح الله عزالدين (دروع)، محمد هامان (هندسة طيران)، الطاهر الحسومي (طيران) ومنصور بدر (بحرية)

22. العقيد الركن صالح السنوسي خريج الدفعة 33 العراق سنة 1957. تحصل على درجة أركان حرب من بريطانيا. كان يتميز بالجدية واطلاعه المستمر. قبل إنقلاب سبتمبر كان يشغل منصب آمر كتيبة مشاة في درنة. بعد الإنقلاب سجن لعدة أيام، أبعد بعدها سفيراً إلى الكونغو، ثم سفيراً إلى الأردن ثم العراق. استدعى إلي ليبيا سنة 1981 ـ رغم نصيحة أصدقائه العراقيين له بعدم العودة لأن القذافي لن يغفر له فعلته ـ حيث سجن وبدون محاكمة لمدة سبع سنوات لأنه قام بحرق صور تسئ إلى رئيس دولة عربية وهو الرئيس الراحل أنور السادات في مدخنة السفارة الليبية ببغداد كان القذافي قد أرسلها مع أحد زبانيته. وقام العقيد صالح بطرد مبعوث القذافي وطلب منه العودة فوراً من حيث أتى ولم يسمح له بالبقاء ليلة واحدة في بغداد. بعد خروجه من السجن لجأ العقيد صالح إلى مصر حيث بقى فيها إلى أن وافته المنية في يوليو 1996.

23. الطيار فتحي بن طاهر كان قد هرب بطائرةـ 33 يقودها زميله النقيب طيار مفتاح أحمد الشارف الفرجاني إلى مطار حاسي مسعود بالجزائر في أوائل يونيو 1967 بغرض المشاركة في الحرب ضدإسرائيل عام 1967، وقد قامت حكومة الرئيس هوارى بومدين بتسليمه مع زميله إلى السلطات الليبية بعد عشرة أيام من هروبهما! وقد حكمت عليهما محكمة عسكرية خاصة بالسجن لمدة خمس سنوات وإخراج من الجيش. في سنة 1970 أدين النقيب مفتاح الشارف بالضلوع في المحاولة الإنقلابية التى قادها المقدم آدم الحواز وسجن لمدة ثمانية عشر سنة.
24. كان صالح بويصير من أشد المتحمسين والمؤيدين لإنقلاب سبتمبر إلا أنه مع مرور الوقت بات على علم ببعض خفايا وأسرار الإنقلاب مما جعله يصرح لأحد أصدقائه زاره في بيته في فبراير 1973 أنه قرر الذهاب إلى القاهرة ـ حيث كان يشغل منصب عضو مجلس الأمة الإتحادى ـ ولن يعود إلى ليبيا لأنه خدع في القذافي. في يوم الأربعاء 21 فبراير 1973 اسقط الطيران الحربي الإسرائيلي فوق سيناء طائرة البوينج الليبية التى كان على متنها صالح بويصير الذي أخذ معه في الطائرة مبلغاً كبيراً من المال قدر بنحو نصف ثروته في ليبيا.